فلقد أتى علينا حين من الزمان لا نكادُ نترك فيه الاستشهاد بكتاب ''الأبطال'' هذا، تماماً كما هو الأمر مع كتاب آخر عن ''المئة شخصية الأكثر تأثيراً في التاريخ الإنساني''؛ غافلين عما وراءَ هذين الكتابين وغيرهما من بنىً شعورية وتصورات خاطئة واعتقادات ملتوية لو كنا نعلمها علم اليقين لسكت عنا هذا الزهو العمي، ولرفضنا تلكم الشهادات التي لا نحتاجها بحالٍ، ولما كان لنا من تعويل إلاّ على حقائق ديننا الحنيف الثابتة بكتاب الله تعالى وسنّة نبيه؛ مصداقاً لقوله تعالى: ''إذا جاءَك المنافقون قالوا نشهد إنك لرسول الله والله يعلم إنّك لرسوله والله يشهد إن المنافقين لكاذبون'' (المنافقون1).
يقول صاحب كتاب ''الأبطال'' فيما قاله عن الكتاب الكريم الذي نزل على سيدنا محمد صلوات الله وسلامه عليه: ''إنني يجب أن أقول: إنني لم أُعانِ قراءةً متعبة كقراءته أبداً. مجموعة مشوشة مضطربة. فج. مضطرب، تكرار بلا نهاية. التواء طويل. تشابك فج جداً. مشوش، غباوة لا تحتمل'' (انظر كتاب ''الاستشراق بين الموضوعية والافتعالية'' للدكتور قاسم السامرائي).
هذا ما يقوله صاحب ''الأبطال'' عن القرآن الكريم، وذلك بعد قراءته لترجمة ''سيل'' الإنجليزي له؛ فانظروا كيف اجتمعت في هذه الكلمات صنوف الأحقاد والجهالات، وكيف أن من لا يعرف ذوق العربيّة ومن يتقَّحُم كتاب الله دون علم بها (وهذا ما ينطبق على المترجم ''سيل'' وعلى كارلايل بالدرجة نفسها)، فإنه غير مأمون على دلالاته ومعانيه ولا على غاياته ومراميه. ناهيك بما يشفع ذلك من ظلمات التعصب ومن أغراض الكيد الاستعماري البغيض.
وإذا أردنا المقارنة بين موقف توماس كارلايل من القرآن الكريم وبين موقف ''الوليد بن المغيرة'' الذي اعترف (وهو الكافر) بأنه سمع كلاماً ''يعلو ولا يُعلى عليه'' فإن ''ذوق العربيّة'' والقربى الحميمة منها هما ما أعوز صاحب ''الأبطال'' الذي كان الاجتزاء من كلامه سبباً في تغييب حقيقة غبائه وحقده عنّا.
فهل نفيدُ مما سبق درساً أو نخلص منه إلى عبرة تدفعنا إلى قراءة ''شاملة'' لما يهجم عليه الاستشراق (وصنائعه) من ديننا وتراثنا، ولما يدعون فهمه منه وهم أبعد الناس عن ذلك؟.
ذلك ما نرجوه حقّاً، وما ندأبُ فيه. وبالله وحده التوفيق.
إبراهيم العجلوني
وهذا مقال آخر للكاتب نفسه وفي الصحيفة نفسها
صورة ثابتة ووسائل متجددة
تعلّم ريموند لول (المولود في جزيرة ميورقة حوالي منتصف القرن 12 للميلاد) العربية والقرآن (الله أعلم ما تعلّم منهما) على يد أحد الأفارقة. ثم كان من أمره أنه اقنع ملك أرغون بانشاء مدرسة في ميرامار لتعليم العربية، وانه مهد لانشاء معهد للدراسات الاسلامية في مدريد، وانه بلغ اقصى امانيه حين اقر البابا ''كليمان الخامس'' في مؤتمر فينا الكنسي عام 1312م انشاء كراسي للغات الشعوب الشرقية، وفي مقدمتها العربية في الجامعات الرئيسية في اوروبا. وهي جامعة باريس وجامعة اكسفورد وجامعة بولونيا وجامعة سلمنكة، وجامعة البلاط البابوي.
ولما كان ريموند لول هذا واحدا من ''طلائع المستشرقين''، فإن ما ينطبق عليه ينطبق على سائرهم، من حيث تخارج الدلالتين الظاهرية والباطنية لمجمل أعمالهم. أو من حيث وجوب أن لا يخدعنا ظاهر الاهتمام بالعربية وبالاسلام عما وراءه من ألوان الحفر المستمر المبرمج لنسف هذا الدين العظيم وأهله نسفاً.
ان هذا المستشرق ''الرائد'' (!) الذي افنى عمره في اقناع الاوروبيين تعلم العربية وانشاء المعاهد لتدريس آدابها هو نفسه الذي يقول في لغتنا (لغة القرآن الكريم والحديث الشريف التي صنّف العرب والمسلمون بها ملايين المخطوطات): إنها ''تشبه اصوات ولغات الحيوانات''.
ولسنا في حاجة الى ذكاء متوقد لندرك ان غاية هذا المستشرق التي ظاهرها العلم والمعرفة هي ابعد شيء عنهما او عن أخلاقهما المفترضة، فهو - كما يقول وريثه في النزعة والاهداف ارنست رينان - احد اكبر الساعين لهدم الاسلام، وهو اكثر الداعين حماسة الى ايجاد ''منظمة حربية لهدم الاسلام''.
ريموند لول، إذن هو الصورة الثابتة للاستشراق قديماً وحديثاً، على الرغم من وجود افراد متباعدين زماناً ومكاناً امكن لهم النجاة نسبياً من هذه الجمالية المرعبة المسخرة لخدمة الحقد والكراهية والاستغلال والاحتلال وكل ما يتعلق بذلك من موبقات.
على ان ثبات الصورة لا يمنع من تجدد الوسائل، ومن تغيير الاقنعة، ومن انتقال مراكز البحث الى مواقع متقدمة بين ظهراني الامم والشعوب المستهدفة، ولا سيما العرب والمسلمين، ومن الافتنان في الاخضاع والاصطناع والايقاع، وفي ابتعاث نابتة من ابناء هذه الشعوب - تم تفريغها ثم تعبئتها وتوجيهها - لتكون قرون استشعار او مواقع ارصاد، او لتكون ابواقا تصدع بما يراد منها، ويا سوء ما يراد.
اما كيف نواجه هذا الكيد العريق وهذا التوقح الصفيق على تاريخنا وحضارتنا، وكيف ندفع اذاه عنا دفع القادرين، فذلك اكثر من سبيل، اكثرها اهمية على المستوى المعرفي والعلمي الخالص ما دعا اليه الدكتور محمود حمدي زقزوق في كتابه عن الاستشراق من ضرورة انجاز موسوعتين شاملتين، اولاهما: ''موسوعة الرد على المستشرقين''، وثانيتهما: ''الموسوعة الاسلامية الحضارية الشاملة''، وهما كفيلتان اذا تم تمامهما، بوقف مهازل الاستشراق، وكشف دعاواه، وبتقديم صورة حقيقية للاسلام والمسلمين.
إبراهيم العجلوني
¥