ومن هنا وضع الإسلام حاجزاً حصيناً يفصل شخصية المرأة كإنسانة تمتاز بما يمتاز به الرجل من الخصائص الفكرية والإنسانية عن شخصيها الأنثوية المتممة لذكورة الرجل بكل ما لهذه الشخصية من مظاهر وذيول ().
وبذلك يكون الحجاب أحد التشريعات الإسلامية التي توخت حفظ كرامة المرأة من مشاعر الامتهان، وتحصين أنوثتها من مرامي العابثين، وإن دلالات النصوص تعزل الحجاب عن أن يكون علامة تمييزية دينية أو غيرها، فهو تشريع يساعد على ضبط الأخلاق في المجتمع، ويستند إلى فلسفة العفاف في الإسلام، وليست الغاية هي ستر البدن لذاته، لذلك قال الله عز وجل ? ولباس التقوى ذلك خير ? ()،ولئن كان تشريع الحجاب يخص المسلمين فإن فلسفته وحكمته إنسانية تهم كل الأمم والمجتمعات البشرية ().
إذن: فالحكمة الباعثة على مشروعية الحجاب هي ما ذكره القرآن الكريم في بيانه المبين حين قال: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لّأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلاَبِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَن يُعْرَفْنَ فَلاَ يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللهُ غَفُورًا رَّحِيمًا) [الأحزاب: 59]." ذلك أدنى أن يُعرفن فلا يؤذين " تلك هي الحكمة: أن تختفي المثيرات الجنسية والغريزية عن أبصار الناظرين من الرجال، فلا يرون منها إلا شريكة معهم في الخدمات الإنسانية والاجتماعية والحضارية.
وإذا كانت هناك من النساء من تمارس السلوكات الشائنة من وراء الحجاب فهذا أمر شنيع ولكنه لا يدعو إلى ازدراء الحجاب ورفضه، لأن مظاهر السفور والتبرج أولى بالرفض والازدراء، فالمنحرفات اللواتي يجنحن في انحرافهن إلى عرض مفاتنهن أضعاف اللواتي يفعلن ذلك من وراء الحجاب ومظاهر الحشمة. ومع ذلك فالعجيب أن الحشمة وحدها هي التي توضع من قبل هؤلاء المعترضين في قفص الاتهام، وتبقى المثيرات والمهيجات التي تعلن عن نفسها مبرأة عن أي تسبب لتهييج الرجال، وإضعاف الوازع الخلقي في نفوسهم، فضلاً عن أن يُشار إليها بأصابع الاتهام!! ().
إزاء هذه الحقيقة نقول: من الذي ينظر إلى المرأة على أنها جسد؟ ومن الذي يقصر فكره ونشاطه على ما يجب كشفه أو ستره من جسدها؟ .. أتراه ذاك الذي يعترف بحقيقة غريزته ويبني عليها حكما يلزم به نفسه ليحترم إنسانية المرأة، وينصرف من خلاله عن التدني إلى مستوى التطلع إلى غاية شهوانية، أم هو ذاك الذي يصر على نفي وجود تلك الغريزة وهو يعلم مكانها في نفسه، ثم يحكم على الرجال بضرورة التنزه عنها، مصرا على إخراج النساء اللاتي بقين مئات السنين في خدورهن، وطرح غطائهن الذي لم يُثِر أي مشكلة طوال تلك القرون، فيأمر الرجال بالنظر دون شهوة، والنساء بالاختلاط دون اعتراف بوجود أي نزوة؟ ().
لقد رافقت الحشمة صورة المرأة منذ خُلقت وعاء للجمال والفتنة، فإذا كان هذا الغطاء الذي لا يمنع المرأة عن مزاولة أعمالها والتمتع بحقوقها قد وقف حائلاً في وجه بعض من الرجال عن التمتع بزينتها () واللهو بمفاتنها، فمن هو الذي يكرّم المرأة إذن ويحترم كينونتها، الإسلام أم الغرب؟ الإسلام الذي رفع من إنسانيتها وأعطاها الدور الملائم لطبيعتها كأنثى وكإنسانة، أم الغرب الذي حولها إلى جسد رخيص يجني منها الرجل ثمار متعته، ثم يمضي باحثاً عن ثمار أشهى في نساء أُخر،،، والمرأة دائماً هي الضحية الشقية.
إن الموقف الغربي من الحجاب لا يمكن تفسيره إلا كلون من الحسد الحضاري، فلماذا المرأة المسلمة لا تزال تحتفظ بعفتها وإنسانيتها؟! لماذا لا تنخرط فيما انخرطت فيه المرأة الغربية من إباحية ومجون؟ أليس الغرب اليوم هو الذي يقود زمام الحضارة؟ ألا ترى المرأة المسلمة كم تقدم الغرب وتفوق؟ لماذا تصر على التحدي والمقاومة؟ لماذا لا تقبل الانصهار في الأنماط الغربية للممارسة الوجودية؟ لماذا تصر على الاستقلال في وجودها وكيانها ورؤيتها وتفكيرها؟ لمَ كل هذا الإصرار على الهوية في عصر العولمة أو قل الأَوْربة أو الأَمْركة؟ لمَ كل هذا التزمت والتعصب؟!!
فلتخرج إذن من بلادنا أو لتلبس لباسنا ولتتحلل كما تحللنا ? وما كان جواب قومه إلا أن قالوا أخرجوهم من قريتكم إنهم أناس يتطهرون ? [سورة الأعراف آية: 82].
أجل إن التطهر قوة، والعفة قوة، والمنحرف يتمنى أن لو كان الناس جميعاً مثله حتى يتخلص من عقدة النقص والشعور بالغربة، فهولا يحب أن يرى أناساً يتمتعون بقوة الإرادة وهو ضعيف، ولا أناساً سعداء وهو شقي، ولا يريد أن يرى أناساً يقاومون تيار الانحراف في الوقت الذي انخرط هو فيه، يريد أن ينجرف الجميع.
إن فرنسا تعج بمشكلات كثيرة من أبرزها: الإدمان، والشواذ، والبطالة، والجريمة، ولم يلفت نظرها من كل هذه المخاطر شيء، فقط شعرت بالخطر من حجاب المرأة المسلمة، وأصدرت قراراً بمنعه!! وقرار المنع هذا سيزيد من المحجبات، وحتى اللواتي لم تكن القضية ذات أهمية بالنسبة لهن سينتبهن لذلك، ويفكرن في أمر الحجاب، وسر الحرب ضد الحجاب، ولعل كثيراً من الغشاوات التي أثيرت حوله تزول مع البحث والسؤال، وإذ بالحرب على الحجاب تعود لصالح الحجاب. والله أعلم بالصواب،وإليه المرجع والمآب.
? يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله ولتنظر نفسٌ ما قدمت لغد واتقوا الله إن الله خبير بما تعملون، ولا تكونوا كالذين نسوا الله فأنساهم أنفسهم أولئك هم الفاسقون، لا يستوي أصحاب النار وأصحاب الجنة أصحاب الجنة هم الفائزون ? [سورة الحشر الآيات: 18 - 20].
وصلى الله وسلم على سيدنا محمد النبي الأمي وعلى آله وصحبه أجمعين.
والحمد لله رب العالمين.