تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

باختصار: زال عنه صدقه وإخلاصه (11).

هذه هي النظرية الأولى التي حاول ومازال يحاول غير المسلمين تفسير ظاهرة الوحي القرآني بها. ولقد رد القرآن هذه التهمة عن الرسول وبين الباعث عليها، وذلك في الآية 33 من سورة «الأنعام» إذ يقول: {فإنهم لا يكذبونك، ولكن الظالمين بآيات الله يجحدون}. بيد أننا لن نلجأ هنا إلى مثل هذه الآية، وإلا كان هذا مصادرة منا على المطلوب، فإن علينا أولًا أن نتأكد بالدليل القاطع من أن القرآن ليس اختراعا محمديا، وإلا كان «محمد» هنا، وهو المتهم بالكذب والتلفيق، يشهد لنفسه، وهى شهادة بالطبع مردودة، بل سوف نلجأ في مناقشتنا لهذه النظرية إلى سيرة الرسول في مصادرها الأولى، متتبعين ملامح شخصيته عن كَثَب، غير ملقين بالًا، من أخبار حياته وأخلاقه، إلا لما لاح عليه نور الصدق بمنطق العقل المجرد. وسوف نحاول أن تكون الزوايا التي ننظر منها إلى شخصيته والموازين التي نقيس بها أعماله عليه الصلاة والسلام زوايا وموازين جديدة بقدر الإمكان حتى لا تتحول هذه الدراسة إلى مجرد مضغ لآراء من سبقونا من الكتاب والمفكرين، وإن لم نقصد بأي حال من الأحوال، في ذات الوقت، أن نغمطهم حقوقهم، فمن المؤكد أننا لولاهم ما كنا ببالغي شيء مما بلغناه في هذه الدراسة.

لقد اشتهر الرسول بين قومه بالصدق والأمانة حتى لقد لقبوه بالأمين، ولم أجد أحدا من المستشرقين شاح في هذا. والملاحظ أنه عليه الصلاة والسلام، حين أعلن دعوته لعشيرته الأقربين أول مرة، قد اعتمد على استفاضة هذه الشهرة فيهم فلم يشأ أن يفاجئهم بالدعوة إلى الدين الجديد قبل أن يحصل على اعترافهم الصريح بصدقه وأمانته، إذ سألهم وهو واقف فوق أحد المرتفعات المحيطة بمكة: "أرأيتم لو أخبرتكم أن بسفح هذا الجبل خيلًا (يقصد: خيلًا مغيرة عليهم) أكنتم مصدقيّ؟» فردوا جميعا في نفس واحد: «نعم» عندئذ دعاهم إلى الإسلام. لكنهم، ولما تنفض ثوانٍ على إقرارهم بصدقه وأمانته، عادوا فسفهوا حِلمه وانفضوا عنه (12). وقد كان «أبو بكر» نسابة يعلم ماضي كل إنسان في قريش وأسرته وأخلاقه، فلو كان يعرف أقل مغمز في شخصية الرسول صلى الله عليه وسلم ما دخل في الإسلام، فضلا عن أن يدخل فيه بدون ذرة من تردد (13).

وقد بلغ من ثقتهم به أنهم كانوا يأتمنونه على أموالهم وودائعهم حتى بعد البعثة واستحكام عداوتهم له. ولو كان المؤتمن أحدًا آخر غير «محمد» لكان خليقا أن يحمل معه هذه الودائع ليلة الهجرة بعد أن وصلت هذه العداوة حد التآمر الخسيس على قتله. لكنه، وهو الصادق الأمين بحق، لم يستحل لنفسه منها دانقا، بل خلف وراءه ابن عمه وربيبه عليا، وكان لا يزال صبيا، فنام في فراشه تضليلا لهم حتى أصبح الصباح فغدا عليهم فسلم لكل منهم ما كان ائتمن عليه «محمدًا» عليه الصلاة والسلام (14). وهذه الأمانة وهذا الصدق في التعامل مع الناس لم يزايلاه لحظة واحدة طول حياته لا في مكة ولا في المدينة، على عكس ما يزعمه هؤلاء المستشرقون من أن تيار الأحداث بعد الهجرة قد جرفه بعيدا عما كان يحرص على الاستمساك به من مثالية في مطالع الدعوة. ولنترك «ابن هشام» يرو عن «ابن إسحاق» بأسلوبه البسيط التلقائي القصة التالية: «قال ابن إسحاق: وكان من حديث الأسود الراعي، فيما بلغني، أنه أتى رسول صلى الله عليه وسلم وهو محاصر لبعض حصون خبير، ومعه غنم له كان فيها أجيرًا لرجل من يهود، فقال: يا رسول الله، اعرض علىّ الإسلام، فعرضه عليه، فأسلم.

وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يحقر أحدا أن يدعوه إلى الإسلام ويعرضه عليه. فلما أسلم قال: يا رسول الله، إني كنت أجيرًا لصاحب هذه الغنم، وهى أمانة عندي، فكيف أصنع بها؟ قال: اضرب في وجوهها، فإنها سترجع إلى ربها، أو كما قال، فقال الأسود: فأخذ حفنة من الحصا فرمى بها في وجوهها وقال: ارجعي إلى صاحبك، فوالله لا أصحبك أبدا. فخرجت مجتمعة كأن سائقا يسوقها حتى دخلت الحصن، ثم تقدم إلى الحصن ليقاتل مع المسلمين فأصابه حجر فقتله. . . إلخ» (15). والشاهد في هذا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يرد أن يلوث مسلم جديد إسلامه بمثل هذه الخيانة، مع العلم بأنه بعد انتصاره علي يهود خيبر قد حاز من أموالهم وأرضيهم وماشيتهم أضعافا أضعاف هذا القطيع من الغنم.

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير