تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

ولكن غنم الأموال في حرب شريفة شئ، واتخاذ الدخول في الإسلام تكأة لمثل هذا الاستيلاء الغادر عليها شيء آخر لا تقبله أخلاق الصادقين المطبوعين على الأمانة والوفاء حتى مع ألدَّ الأعداء.

وقد كان موقفه عليه الصلاة والسلام، حين نزل عليه الوحي أول مرة، دليلا من دلائل صدقه التي لا تقبل المماراة. لقد شك في مصدر هذا الوحي ورعب منه. وقصته حين عاد من الغار إلى بيته ليلا وهو يهتف: «دثروني. دثروني» أشهر من أن نحتاج إلى سوقها بالتفصيل (16). ووجه العبرة فيها، فيما نحن بصدده، أنه لو كان كاذبا في أمر جبريل والوحي لكانت له في ميدان الكذب مراغم واسعة يستطيع أن يصول فيها و يجول كيفما شاء. لقد كان الأحرى به، لو كان مزيفا دجالا، أن يدعي أن جبريل، بدلا من أن يغطه مرات ثلاثا حتى كادت روحه أن تزهق، قد أخذ بيده أخذا رفيقا حانيا، وسمر معه سمر الأصدقاء المتفاهمين بدلا من هذا الأمر الخاطف الجازم الذي لم يستطع صلى الله عليه وسلم أن يفهم كنهه ولا المقصود به: «اقرأ». كذلك كان الأحرى به عندئذ أن يعود إلى بيته مبتسما منشرح الصدر. أليس يزعم أنه قد نزل عليه وحي من عند رب العالمين؟ إذن فقد اصطفاه هذا الرب خليلا ورسولًا، وإذن فالنتيجة المنطقية لهذه الكذبة العريضة أن يشفعها بكذبة أخرى عريضة مثلها تبين كيف أن ربه تجلى له شخصيا، وكلمه مشافهة، وربت علي كتفه. . . إلى آخر هذا الهراء الذي هو بالكاذبين الدجالين أقمن، وبصدوره عن عقولهم ونفوسهم الملتوية أشبه (17).

إننا حين نسوق هذا الدليل لا نفعل ذلك لمجرد أننا مسلمون، فقد قمت بهذه الدراسة المضنية لتبرئة ضميري أمام نفسي وربي أ ولا وقبل كل شيء، لأني أحب أن أتثبت من كل ما أعتقد أنه حق على قدر ما تسع طاقتي العقلية والنفسية من بحث وتقص وتقليب للأمر على وجوهه المختلفة. ثم إننا قد رأينا «ألفريد جيوم»، و هو مستشرق بريطاني لا يؤمن بنبوة «محمد» عليه الصلاة والسلام، يعتمد هذا المقياس دليلا على صدقه ورغبته في التثبت من أن ما تجلى له في غار حراء إنما هو حق لا ريب فيه. و ها هو ذا «واشنجتن إرفنج» أيضا يستخدم هذا المقياس ذاته دليلا على صدقه و أنه لم يشأ أن يستسلم من فوره لما كان يمكن، من باب الاحتمال العقلي المجرد، أن يكون ضربا من الوهم (18). ليس ذلك فحسب، فإن «مكسيم رودنسون»، وهو الشيوعي الذي لا يؤمن أصلا بقوى روحية ويرجع بكل شيء إلى البيئة المادية أو أ ثرها في النفس الإنسانية، لا يفوته أن يبرز هذه النقطة، إذ يعترف بأن الرسول عليه الصلاة والسلام قد شك طويلا قبل أن يطمئن إلى أن الذي يأتيه هو وحي من عند الله (19). وهذا الشك وهذه الرغبة في التثبت هما بدورهما دليل قوي لا يمكن رده على أنه عليه الصلاة والسلام لم يكن يتطلع قبل الوحي إلي أن يكون رسولا، وذلك خلافا لما يدعيه بلا برهان بعض المستشرقين من أن حادثة نقل الحجر الأسود جعلته يعتقد أنه مدعوّ لحمل رسالة (20)، إذ فضلا عن أ ن أحدا منهم لم يورد من حياة الرسول ولا تصرفاته دليلا واحدا ولو متهافتا على ذلك، فإن استعانة قريش بمحمد، عن طريق المصادفة المحضة، في فض خصومتهم حول نقل الحجر الأسود، لا يمكن أن تستتبع منطقيا اعتقاده في كون ذلك نذيرا بأنه مدعو لحمل رسالة ما. إن عقل «محمد» لم يكن في يوم من الأيام بهذا التهافت ولا بهذه الفسولة في الربط بين المقدمات ونتائجها. ويتصل بهذا مسألة فتور الوحي بعد الدفقة الأولى إلى الدرجة التي وجدها قومه فرصة لإيذاء مشاعره مدّعين أن شيطانه قد هجره (21)، فينزل الوحي مطمئنًا الرسول إلى أن حب ربه له باق لم يتغير، مما يدل على أن أثر هذا الادعاء قد وجد إلى قلبه سبيلًا. ترى لو كان كاذبًا دجالًا فما الذي يجعله يتوقف عن ادعاء الوحي ولو باللغو الفارغ من القول أو بتدبيج المدائح الإلهية الملفقة في شخصه؟ ولو افترضنا أنه قد فاته هذا فَلِم يتأثر بمثل هذا الادعاء كما تشي بذلك سورة «الضحى» مادام يعلم من نفسه أنه كاذب وأن الأمر كله لا يعدو تلفيقًا في تلفيق؟ إن ما داخله من حزن بسبب تقوُّلات قريش عنه إنما هو حزن الصادقين. إن هذه السورة ليست دفاعًا عن «محمد» ولا مدحًا له ولا شتمًا لأعدائه، وإنما هي طمأنة له في جملة قصيرة: {مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى} «الضحى، آية 3»، وتذكير بنعمة الله عليه وأنه

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير