الأخ العزيز الأستاذ ابن جماعة، لا أظن تصويرى للمسألة يزيد عن الواقع كثيرا فى سوئه، وإلا فلم نحن متخلفون كل هذا التخلف ولا نريد أن نخرج من هذه الدائئرة الملعونة رغم كل ما ينصب على رؤوسنا كل يوم من المصائب والبلايا من أعدائنا ومن أنفسنا؟ كذلك كم عدد النسخ التى تطبعها دور النشر من كل كتاب فى الغالب؟ فى بلاد الغرب حيث أفهم أنك تعيش يطبعون الكتاب بمئات الألوف فى كثير من الأحيان، أما نحن، ونحن أكثر من 3000000 نسمة فنطبع فى كثير من الأحيان 500 نسخة، ولا تباع إلا بالضنك. إن الغالبية العظمى الساحقة الماحقة من الأسر العربية لا تعرف شيئا اسمه شراء كتاب أو قراءة أى شىء على الإطلاق، لأنهم إنما يعيشون للأكل والشرب والتناسل ليس إلا، وهذا هو فهمهم للحياة ... ولا يختلف الحال عند الحكام عنه لدى الشعوب، فكلهم ذرية واحدة فى سوئها وتخلفها. وكفاية كده، إذ لا أريد أن أولم نفسى أكثر من ذلك. لا بل خذ عندك: تصور أن طالبا (أوطالبة) فى قسم اللغة العربية يكتب فى ورقة الامتحان أن الإسلام عندما جاء دخل فيه محمد وآمن به، وطالبا آخر (أو طالبة) يكتب أن الآية الفلانية نزلت منذ ملايين السنين (يريد أن يقول إنها سبقت العصر الحديث الذى تقدم العلم فيه بخطوات واسعة)، وطالبا آخر (أو طالبة) يقول إن امرأ القيس كانت عنده مدرسة يدرس فيها للطلاب القرآن والحديث وما إلى ذلك. تصور أن كثيرا من الطلاب لا يستطيع أن يقول فى ورقة الامتحان شيئا قابلا للفهم، والأغلبية الرهيبة لا تستطيع تركيب جملة عربية سليمة حتى عند تناول أبسط الأفكار. ومعظم الطلاب والطالبات يقولون: الدكتور القرطبى والدكتور الغزالى والدكتور ابن حزم والدكتور الشاطبى والدكتور جرجى زيدان والدكتور سيد قطب والدكتور ابن جماعة ... (الأخيرة طبعا من عندى على سبيل الدعابة، لكن لها دلالتها مع ذلك). تصور أننى أسأل طلابا فى الفرقة الثالثة بقسم اللغة العربية عن العصر الذى كان يعيش فيه توفيق الحكيم، وأخيرهم بين المملوكى والعباسى والأموى فتكون الإجابة: المملوكى. تصور أن طلبة السنة الرابعة قسم اللغة العربية لم يعرفوا فى بداية الفصل الدراسى الماضى من هو زكى مبارك ... هيه؟ أومازلت تحسب أن الصورة التى رسمتها سوداوية دون داع؟ تصور أن طلبة السنة التمهيدية للماجستير فى قسم اللغة العربية لا يعرفون عادة أى شىء غير أولى فى النحو، بل إن كثيرا من الأوليات النحوية لا يعرفونها إلا بعد اللتى واللتيا، وبعد اشتراك الجميع فى الجواب، على طريقة كلمة من هنا، وأخرى من هناك، مع تصحيحى لمسار المناقشة إلى أن نصل إلى شىء، بعد أن تكاد روحى تخرج من حلقى؟ نعم الصورة قاتمة، والقادم أقتم، لأن كل المؤشرات تقول هذا. وبالمناسبة فهذا هو رأيى منذ أن سافرت إلى بريطانيا فى سبعينات القرن الماضى حيث تكشف لى إلى أى مدى نحن متخلفون، وإن كنت لم أتخيل أن الكوارث التى نحن فيها الآن ستكون بهذه الفداحة. لقد قلبت المواجع علىّ، وأرجو تحملى ما دام الموصوع قد انفتح
ـ[محمد بن جماعة]ــــــــ[10 Aug 2008, 01:00 ص]ـ
أضحك الله سنك، أستاذي الفاضل. ويبدو لي أنني نجحت في استفزازك (إيجابيا) للحديث عن بعدين من أبعاد الخلل في منظومتنا العلمية: جانب النشر، وجانب المستوى العلمي للطلاب الجامعيين، إضافة إلى موضوع آخر ذي صلة ولا يمكن إغفاله: قضية جودة الكتاب وقيمته العلمية.
وأحسب أن الظاهرة عامة نسبيا في البلدان العربية، وإن تفاوتت حدتها باختلاف التخصصات.
وقد كانت لي بعض الأحاديث مع أستاذ جامعي وعميدة دار المعلمين العليا في تونس، في الإجازة الصيفية، وجرى الحديث عن وجود تطور نوعي في السنوات الخمس الأخيرة في تخصص الآداب العربية، بعد حالة من الإهمال الكامل لهذا التخصص.
أما عن موضوع النشر فهو إحدى المعضلات التي لم يتم الاعتناء بها لحد الآن في بلداننا العربية للأسف الشديد.
وقد كنت تحدث في مناسبة سابقة عن ضرورة دفع الأساتذة الجامعيين إلى التمييز بين النشر الأكاديمي والنشر الشعبي، وضرورة الضغط باتجاه دعم النشر الأكاديمي وحمايته، في كل المستويات (حماية حقوق المؤلف/ وحقوق الناشر ... )
وفي تقديري أن الأساتذة الجامعيين هو أولى الناس بأن يشكلوا مجموعة ضغط (لوبي) باتجاه دعم منشوراتهم.
ومن بين مظاهر الحماية، تكوين جمعية حقوقية للدفاع عن حقوقهم، من خلال مراقبة ما تانشره دور النشر بدون حق، ومن خلال مراقبة ما ينتشر على الإنترنت نت نسخ غير شرعية.
ومن بين مظاهر الحماية أيضا، التخلي عن اعتماد الكتب المطبوعة قديما كمراجع في الدرس الجامعي، مهما كانت قيمتها العلمية، ودفع الطلبة نحو شراء الكتب حديثة النشر.
ولا شك أن الجمهور المقصود بالنشر المتخصص هو القطاع الجامعي، أي الطلبة والباحثون.
ولعلي أعود لهذا الموضوع بمزيد البيان لبعض الحلول الذكية والعملية التي يمارسها الأساتذة الجامعيين ليفرضوا على طلبتهم شراء هذه الكتب (وعدم الاكتفاء بنسخها).