· إن اللغة عاجزة عن الإمساك بدلالة وحيدة، ومعطاة بشكل سابق.
· إن اللغة تعكس لا تلاؤم الفكر، إن وجودنا في الكون عاجز عن الكشف عن دلالة متعالية.
· إن كل نص يدعي إثبات شيء ما هو كون مُجهَض، أي نتاج كائن يشكو من اختلال ذهني، لأن النص يُنتج سلسلة لا متناهية من الإحالات ([40]).
بناء على هذه الأسس فإن الفكرة التي عبر عنها بول فاليري بقوله: "" لا وجود لمعنى حقيقي للنص "" هي فكرة هرمسية خالصة ([41]).
إذاً: تستند الهرمسية على مبدأ المماثلة والتناظر وإذا كانت المماثلة في القياس الأصولي تستند على العلة أو القرينة فإنها في المماثلة الغنوصية والهرمسية تتحرر من هذا القيد فالجواز من اللفظ إلى المعنى أو من الظاهر إلى الباطن في التأويل الغنوصي يتم بدون جسر، وبدون واسطة، فهو قياس ولكنه عشوائي وبدون جامع أو ضابط ([42]).
إن الشيئين قد يتشابها أحياناً من حيث السلوك، وأحياناً من حيث الشكل، وأحياناً من حيث الزمن، فالأساس في هذه المماثلة الغنوصية هو شكل القرابة وليس المقياس الدال عليها ([43]). فالغنوصية الهرمسية تتجاهل المقاييس ما دام وُجد أي شكل من أشكال التناظر، فتنتقل من مدلول إلى آخر، ومن تشابه أو ترابط إلى آخر دون ضابط أو رقيب، فالنص يُنتِج انزلاقات دلالية لا تتوقف لأن مدلول كل كلمة ليس سوى مدلول كلمة أخرى، وبإمكان كل شيء أن يحيل إلى أي شيء ([44]).
إنها حالة توالد إيحائي ([45]) يستند على أي حالة من حالات التناظر أو التماثل، وإذا علمنا أن أي شيء يمكن أن تكون له من زاوية ما علاقات تناظر أو تجاور أو مماثلة مع أي شيء آخر ([46]) أدركنا أن التوالد لا نهاية له، وأن الإيحاءات تنتشر بشكل سرطاني بحيث إننا كلما انتقلنا إلى مستوى أعلى تم نسيان مضمون العلاقة السابقة أو تم محوها دون توقف ([47]).
أظن أنني هنا أحتاج فقط إلى التأكيد على أنني كنت في الفقرة الآنفة أتحدث عن الغنوصية الهرمسية وليس عن الهرمينوطيقا.
المطلب الثاني - العلاقة بين العلمانية العربية والغنوصية:
1 – التواصل المنهجي التنظيري:
برغم أن الغنوصية تقوم على العرفان والكشف بزعم أهلها، وأن العلمانية تقوم على العقل بزعم أهلها أيضاً إلا أن اللقاء بين الطائفتين يكاد يكون تاماً على مستوى الوسائل والغايات والمسالك والنهايات، ومع أن هذا الموضوع يستحق الإفاضة طويلاً، ويحتاج إلى دراسة مستقلة، إلا أنني سأحاول أن أختصر هذه الفقرة على أمل أن يكون ذلك نواة لبحث أوسع.
إن الطائفة الوريثة للغنوصيات القديمة في التاريخ الإسلامي هي الباطنية ومن خلالها سنحاول أن نكشف عن عناصر التواصل بين العلمانية والغنوصية.
يعتبر العلمانيون أنفسهم دعاة التنوير والتجديد كما هو معلوم، وكذلك يعتبر الباطنيون أنفسهم، فهذا واحد من ممثليهم يقول بأن الباطنية هي طريق التنوير والإرشاد ([48]). والعلمانيون يعتبرون أنفسهم دعاة العقلانية، وكذلك الباطنيون أيضاً فهم يعتمدون – بزعمهم - على مصدر ثقة هو العقل الكلي فهم إذن " العقليون " أو " أهل العقل " ([49]).
والعلمانيون يعوِّلون على التأويل ويفضلونه على التفسير ([50])، وكذلك الباطنيون يعتبرون التفسير يؤدي إلى الاختلاف، أما التأويل الباطني فهو نظام ثابت عقلي عملي يوافق المجتمع ([51]).
بل إن التفرقة العلمانية التي رأيناها بين التنزيل والتأويل، وبين القرآن ككتاب تنزيل، وتحوله إلى كتاب تأويل خاضع لكل المقاييس البشرية هي في أساسها تفرقة غنوصية باطنية جاءت من التفرقة الباطنية المنتشرة في مؤلفاتهم الفلسفية والفقهية بين التنزيل والتأويل، أو المَثَل والممثول، أو العلم والعمل ([52]).
لقد أول الباطنيون كل " دعائم الإسلام " وأركانه وشعائره عن طريق فكرة الظاهر والباطن وذلك عندما اعتبروا أن الظاهر بمنزلة القشر والباطن بمنزلة اللب، وأنه لا يستقيم الباطن إلا بالظاهر الذي هو جثته الهامدة - كما يؤكد العلمانيون دائماً - ولكنه دليل عليه، لأنه لا يصلح جسم إلا بروح ولا روح إلا بجسم ([53]).
¥