تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

ومن هنا ذهبوا إلى تأويل كثير من الآيات لتخدم غرضهم هذا في التمييز بين العلم الظاهري والعلم الباطني فقوله تعالى:] يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ العِلْمِ [([54]). يعني العلم الباطني الروحاني، هكذا جزافاً وبدون دليل ([55]). وقوله تعالى:] حَتَّى إِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ [([56]). يعني جاء علم الباطن وتكلم به الأساس ([57]). وقوله تعالى:] قَالَ سَآوِي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ المَاءِ [([58]) يعني سآوي إلى أحد علماء الظاهر ([59]). وقوله عز وجل:] وَحَالَ بَيْنَهُمَا المَوْجُ [([60]). أي حال بينهما علماء الضلال، أي علماء الظاهر ([61]).] وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ [([62]). " أي أمر الأساس أن يصان العلم الباطني عن غير أهله " وغيض الماء " أي غامض العلم الباطني ([63])

والنعمان بن حيوة ([64]) يصرح بأنه لا ينفي علم الظاهر، وإنما الباطن علم إضافي، وأنه هو وطائفته يؤمنون بالظاهر والباطن ([65]). ولكن هذا غير صحيح وإنما هو لون من المراوغة والخداع - كما يفعل ورثته العلمانيون - لأنه عند قوله تعالى:] فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلاَّ خَمْسِينَ عَاماً [([66]). ينفي أن يكون الإنسان معمراً كل هذه المدة لأن أبدان البشر لا تطيق ذلك، والمعنى مدة دوره ولُبْث شريعته ([67])، ولأنه يعتبر الباطن هو العلم والحكمة التي يجب أن يرقى إليها الطلاب ([68])، ويعتبر الباطن بمثابة الروح والظاهر بمثابة الجسد ([69]).

لا يختلف الظاهر والباطن في مفهوم الباطنية عن المعنى والمغزى في المفهوم العلماني، فكلاهما يقفز إلى التأويل الذي يرتضيه منهجه متجاوزاً القرينة والدليل والسياق وبالإضافة إلى تجاوزه للإجماع وما هو معلوم من الدين بالضرورة.

فالمعنى عند نصر حامد أبو زيد ([70]) هو الظاهر عند الباطنية، والمغزى هو الباطن والنتيجة واحدة هي رفض الفهم السلفي الذي أجمعت عليه الأمة. ففي قضية الميراث المعنى هو إعطاء الذكر مثل حظ الأنثيين، أما المغزى فهو أن نطوِّر ذلك في عصر التطور إلى المساواة بين الذكر والأنثى. ولكن أين العلامة والقرينة التي نبهنا الباري عز وجل بها إلى هذه النتيجة البوزيدية؟ لا وجود لها، فالباري عز وجل فصّل المواريث ووقف عند حدود معينة، وأمرنا أن لا نتجاوز حدوده، ولكن الخطاب العلماني يهدم حدود الله ليرتع في حماه.

ولا يختلف الظاهر والباطن في مفهوم الباطنية عن مفهوم القراءة كما رأيناه في الهرمينوطيقا الغربية ونسختها العربية، فالنص كما رأينا ليس نصاً على المراد، وليس نصاً على الحقيقة "" وإذا كان النص لا يقول الحقيقة، بل يخلق حقيقته، فلا ينبغي التعامل مع النصوص بما تقوله وتنص عليه، أو بما تعلنه وتصرح به، بل بما تسكت عنه ولا تقوله، بل بما تخفيه وتستبعده "" ([71]).

إن هذا الذي يتحدث عنه الخطاب العلماني ويسميه ما بين السطور، وما يخفيه النص هو الباطن الذي يتحدث عنه الباطنية "" إنه لا بد لكل محسوس من ظاهر وباطن، فظاهره ما تقع عليه الحواس، وباطنه ما يحويه، ويحيط العلم به، فالجسد هو الظاهر والروح هو الباطن "" ([72]).

وهكذا لا نميز بين ما يتفوه به العلمانيون اليوم وما قاله الباطنيون بالأمس، يقول الخطاب العلماني: "" وذو اللب لا يقف عند الظاهر المنطوق به، بل يطلب الغائر أو المطمور أو المستتر أي يطلب معنى المعنى، ومعنى المعنى ليس سوى الظاهر أو السطح أو الشكل أو التشكيل أو الدال وقد حجب نفسه وتحول إلى عمق أو لامرئي أو محتوى أو باطن "" ([73]). وهكذا يقرر أهل الباطن "" إعلم يا أخي أن لكل شيء من الموجودات في هذا العالم ظاهراً وباطناً فظواهر الأمور قشور عظام، وبواطنها لب ومخ … يستخلصها ذوو البصائر والأبصار، فيبين الله فضل المجتهدين على المقصرين، والمجاهدين على القاعدين "" ([74]).

فالجوهر عند الباطنية هو الباطن، هذا الباطن ليس سوى المغزى عند نصر حامد أبو زيد، ومعنى المعنى عند علي حرب، والجوهر عند العشماوي، والمقاصد عند الجابري، والحداثة عند أركون، والضمير عند عبد المجيد الشرفي، وهلم جرا.

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير