تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

"" هكذا تجد أن تصورنا لله يختلف باختلاف المجتمعات والعصور، فإذا كان المجتمع منفتحاً متقدماً مزدهراً كان تصوره لله هادئاً سمحاً وديعاً، وإذا كان المجتمع يعاني من الفقر والجهل وهيمنة الأب القاسي أو الحاكم الجائر المستبد، فإن تصوره لله سوف يكون بالضرورة ضيقاً عنيفاً، قمعياً "" ([90]) الله هو التقدم، والحرية، والعدالة، والخبز، والتنمية، والرغيف، والحب كما يقول حسن حنفي ([91]). وبذلك يصبح الإنسان هو الذي يصنع تصوره لله بحسب مستواه العقلي ومدركاته الذهنية، أما أن يكون للقرآن الكريم توجيه في هذا الشأن، وتعليم بهذا الخصوص، وهداية للإنسان إلى المعتقد السليم فيما يتعلق بالذات الإلهية وصفاتها فهو أمر لا يدخل مطلقاً في حسابات الخطاب العلماني.

هذا هو التأويل العلماني الغنوصي لعقيدة الألوهية، فماذا عن اليوم الآخر والغيبيات؟ إنها نفس النتائج، بل ونفس العبارات لدى الطائفتين، فالغنوصيون يقولون بأن "" الثواب والعقاب في حق ماهيتهما من طريق الإعراب عنه ومعرفته سبيل منسد غير ممكن سلوكه إلا على المؤيدين، والمستطاع الممكن في ذلك كما قال موالينا عليهم السلام هو تشبيه الأمور المحسوسة بالمعايَن المعلوم … كما وصف الله تعالى نفسه في كتابه أولاً بالعلم والقدرة والحياة والسمع والبصر والرضى والسخط والغضب والرحمة وغير ذلك من الأمور المعلومة عندنا، ووصف الملائكة بالدعاء والتسبيح والتهليل، والقيام بما يُؤمرون، ووصف الموجودات في الجنة بالظل والمياه والأنهار والأشجار والثمار والرمان والأعناب والولدان … ووصف موجودات الجحيم بالنار والعذاب والآلام ... ومثل ذلك كله محسوس لا أن تلك الأمور المخَبر عنها كالمخَبر به، أو المخبَر به يدانيها بحال من الأحوال، بل هو تقريب على الأنفس وتعليم لها لتتقوى بمعرفة الأمثلة "" ([92]). ويقول السجستاني "" لما كان قصارى الثواب إنما هي اللذة، وكانت اللذة الحسية منقطعة زائلة، وجب أن تكون التي ينالها المثاب أزلية غير فانية، باقية غير منقطعة، وليست لذة بسيطة باقية على حالاتها غير لذة العلم، فكان من هذا القول وجوب لذة العلم للمثاب في دارالبقاء"" ([93]). ويقول علي بن محمد الوليد "" ودار الثواب لا تغير فيها، فلا يمكن أن تكون لذاتها حسية لأن ما هو حسي متغير فاسد "" ([94]).

أما النفخ في الصور في نظر الباطنية فهو إشارة إلى صاحب الدور السابع الذي يحصل في الوجود آخر دور ([95]). وأما الساعة فإشارة إلى قائم القيامة وهو السابع من أئمتهم ([96]). وأما خلق عيسى من غير أب فهو التأييد والترقية إلى مقام النبوة من غير توسط أحد من البشر ([97]). وأما طوفان نوح عليه السلام وتفجير الأرض عيوناً، فهو تفجير العلم من الأئمة ([98]). وعقر الناقة هو مدافعة الحجج بالباطل ([99]). وإحياء عيسى عليه السلام للموتى بإذن الله هو إعادة الكفار إلى الإيمان ([100]).

والسؤال هنا: هل تختلف هذه الهواجس الباطنية عن الهواجس العلمانية؟

لقد اتجه الفريقان إلى تأويل العقائد الإسلامية، والمعجزات، والغيبيات، والقصص القرآني تأويلاً يلغي حقائقها، وينفي وقائعها وأصبح القرآن الكريم كتاباً آخر، بلغة أخرى يفهمها فقط أهل الباطن وأهل العلمنة.

هل يختلف قول الباطنية عن الغيبيات والعالم الآخر والمعجزات بأنها أمثال محسوسة لتقريب الصور المعقولة إلى الأذهان بالأمثلة حتى تطيق هذه المعاني وتستوعبها عن قول الخطاب العلماني بأنها تصوير فني وإبداع أدبي لا يراعي الحقيقة ولا يقصدها ([101]). لا يختلف ذلك عن قول خلف الله ([102]) بأن القرآن نزل على المعهود الذهني للعرب، والمستوى الثقافي لهم وإن لم تكن معتقداتهم حقيقية واقعية ([103]). ولا يختلف عن قول أركون ([104]) بأن الجنة والنار من نتاج الخيال الشاعري لدى البدو ([105]). ولا يختلف عن قول أبي زيد بأن العقائد تصورات مرتهنة بمستوى الوعي أي أنها يجب أن تتناسب مع نمو العقل في كل طور من أطوار التاريخ فلذلك بنظره فإن صورة الله عز وجل في القرآن كملِك له عرش وكرسي وجنود هي صورة أسطورية ليست أكثر من شاهد تاريخي، يشهد على مستوى المعرفة والوعي آنذاك ([106]).

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير