ـ[محمد جابري]ــــــــ[15 Sep 2008, 06:16 م]ـ
أخي عد الرحمن الشهري، حفظه الله، سلام عليكم ورحمة الله وبركاته أما بعد؛
إمعانا في بلورة وتعميق البحث حول جوهر الإعجاز القرآني هذه مساهمة كنت قد عرضتها على الأحبة في الألوكة فنشروها هنالك، ولم تلق من القراء عناية لمناقشتها والتوسع في فحواها,
الحمد لله الواحد الأحد، الذي لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفوا أحد، أحمده حمدًا لا مزيد عليه، بما أنعم وتفضَّل، وأشكره شكرًا يستزيد من فضله وإنعامه؛ إذ القناعةُ من الله حِرمان، وأصلي على نبيِّ الهدى، وعلى آله ومن والاه إلى يوم الدين.
أما بعد:
فإنه لَمِن دواعي واجبِ النصح لكتاب الله - تَبْيينُ مُنزلقَاتٍ ومنعرجاتٍ، تاه فيها مَن أذهلهم القرآن بإعجازه، فانبهروا، وتكلموا عن الإعجاز القرآني، بما أخذهم من إعجاب، ولم يأخذوا موضوع الإعجاز من أصله بدراسة أكاديمية علمية، حتى وإن جاءت أبحاثهم ثابتةَ الجذور، متلاحمة الأوصال، دقيقة التفاصيل، رائعة المبنى.
ومضى تقليد الأواخر للأوائل، فليس كل من تطاول على الميدان جاء فيه بأبدَعِ إنتاج، ومجالُ الكلام عن إعجاز القرآن مُحاطٌ، ومُسيَّج بسياجِ خشيَةِ التقوُّل على الله؛ فكل مَن لم يراعِ الحدودَ وقع في المحظور، والمحظور في مجالات الاعتقاد كُفْر بَوَاح، وليس مجاله كمجالات الأبحاث الفقهيَّة، حيث يُضْحِي الحاكم المجتهد مأجورًا على كل حال، سواءٌ أكان مصيبًا للصواب أم مخطئًا له.
والإشارة للحاكم تعني من توفَّرت كل المعطيات في يده، وليس لكل من هبَّ ودبَّ من دارسي الاجتهاد الفقهي؛ إذ ليس الأمر كما قال محمد إسماعيل [1] بأنه: "للتَّشَرُّف والاستمتاع بالنظر في كتاب الله بعين الإجلال، والإعظام، والإيمان بقداسَته، ثم للإشادة بسموِّه وروعته، والتذكير بعلوِّ مكانته بين الكتب السماوية"، وما على المرء سوى إلقاءِ نظرة فيما كتب المفسرون - وبخاصة في (مشكل القرآن) - ليرى بأن رؤيةَ التَّعظيمِ وحدَها لا تكفي.
عرض الإشكال:
الكلام عن الإعجاز شَغَفَ كُتَّابًا، وأسالَ مِدادًا، وشغل مواقعَ متخصصةً، وغير متخصصةٍ في الشبكة العنكبوتية، وصحيح أنَّ فضل الله لا يُحْجَرُ؛ إذ يوجد في النهر ما لا يوجد في البَر والبحر، وتتفاوت الهمم بين الناس، كما تتفاوت مَلَكَاتُهم وسرعة نباهتهم في فَهْم الإشارات اللَّطيفة، والعبارات الدقيقة، وسرعة البداهة في ربط الأسباب بمسبِّباتها، الشيء الذي يمكِّن المرء من وضع اليد على نُكَتٍ علمية، جليلةِ القدر، عظيمةِ الشأن، عاليةِ الكعب، غاليةِ الاستنتاج، تتناغم فيها الإشارات العلمية مع الضوابط الأصوليَّة، بفهم متفتِّح، مستنير بنور السنن الإلهية؛ كي لا يتقوَّل المرء على الله وعلى كلامه.
وانقسم العلماء: بين مانعٍ للكلام في تفسير آيات قرآنية باستنتاجات علمية، ومبيحٍ لذلك، ومتوقفٍ فيه، فلا هو يبيحُه بخالص الرضا؛ مخافةَ فتح بابٍ للتقوُّل على الله وعلى كلامه، ولا هو يَمنَعُه كلَّ المنع؛ لما أشكل عليه من هذا الأمر، فيسد الباب؛ سدًّا للذرائع، فتسد معه أبواب الاجتهاد، وتَتَعَطَّل المواهب، وتَمُوت الملَكات الذوقيَّة.
وَمَا أباح المبيح إلا لذوقه لما جاءت به قرائح نيرة، استفادت وأفادت، فجاء دعمه لهذا التوجه، وما منع المانع، إلا خشيةَ فتح باب؛ للتقوُّل على الله بغير عِلْم، لا يُسَد بعد فَتْحِهِ.
وإلى جانب هذه المواقف المتحفِّظة، يُسْقى العقل من دَلْوِ النصوص المجردة عن رُوحانيَّتها، وعن تعاليمها الربانية؛ إذ الرد إلى الله فسروه بالرد لكتابه، وليس ردًّا إلى الله، وهو الحي القيوم، هل التجأنَا إليه وخيَّبَنا حتى نستدير الجنب عن بابه؟! ويا ليتهم استنطقوا الكتاب، إذًا لنَطَقَ بالحكمة وفصلِ الخطاب؛ إذ كلام الجليل أسبغ الله عليه صفات التكليم {وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ} [الزخرف: 4]، فرُوح القرآن تنافح عن نفسها، وتَدفَع الشبهات، وليت مَن تطهَّرت سريرته يَلمِس جوهر روحه، فيتعامل معها وتتعامل معه، وتفضي إليه بأسرارها، فيَتَنَسَّمُ منها نسائمَ فَهْمٍ جديد، قريبِ عهد بربه كما يقول الربانيون.
¥