تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

بالغرب، و مصداق ذلك هو المثال الذي يقدمه ابن نبي للاحتذاء به، ألا و هو النموذج الياباني. إن مالك بن نبي يتحدث عن " التأمل في سنن التاريخ التي لا تغير لها " المستمدة من " النص المبدئي للتاريخ التكويني (إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما في أنفسهم) " ليخلص من هذا الحديث إلى فكرة القانونية الثابتة الحاكمة لحركة التاريخ و المجتمع، لكنه يقدم بعد ذلك تصوره الخاص لهذه القانونية لا التصور القرآني، وسواء أصاب مالك بن نبي في هذا التصور أو أخطأ، فهذا شأن منفصل لا علاقة له من قريب أو بعيد بمفهوم السننية القرآني. على هذا المنحى سار جودت سعيد في تطوير مبدأ السننية عندما أصدر في الستينيات سلسة كتب تحت عنوان سُنن التغيير في النفس والمجتمع، كان منها: حتى يغيروا ما بأنفسهم، ومفهوم التغيير ورياح التغيير، وغيرها من الكتب. لكنه لم يخرج عن النهج العام الذي يهدف في المحصلة النهائية إلى جسر الهوة بين عالم الإسلام و الحضارة الغربية. إن مفهوم السننية عند جودت سعيد يتسع إلى أقصى مدى ممكن، فهو يمتد ليشمل القانون الناظم للحركة الكونية و كذلك قانون الحركة الاجتماعية و التاريخية، فعلم الفلك هو " سنن الآفاق" و علم الاجتماع " سنن تغير المجتمع" و كذلك علم النفس الحديث والوضعي فهو " سنن تغيير ما بالأنفس"، بل إنه يرى في قوانين الماركسية إثبات للسنن مع إقراره بأن تفسير الماركسيين لهذه السنن كان جزئياً. من الواضح أن مفهوم السنن يعادل عند جودت سعيد مفهوم القانون الطبيعي و الاجتماعي، لكن هذا لا يتفق بأي حال من الأحوال مع سياق النص القرآني، و هذا الفهم هو الذي يؤدي به إلى مجموعة من المغالطات من نوع الحديث عن السنن في صفات المادة " فصفة الذرة و صفة مركباتها، هذه الصفات و السنن من خلق الله" و كذلك حديثه عن كون السنن عامة " لأن السنة لا تكون إلا سنة إلا إذا كانت عامة " و كذلك حتمية هذه السنن — كما هو حال القوانين- و استشهاده بحديث رسول الله صلى الله عليه و سلم لإثبات هذه الحتمية" لتتبعن سنن من قبلكم حذو القذة بالقذة" مع أن سياق الحديث يشير إلى معنى التحذير و التنيه و وجه الحتمية في كلام النبي عليه الصلاة و السلام (في الحديث المذكور و في حديث القصعة و تداعي الأكلة إليها) أن الله قد أطلعه على مستقبل أمته فأخبر بما علم، و ليس مؤداه ما خلص إليه جودت سعيد من " أن الرسول كان يرى المستقبل من خلال السنن .. و ليس هناك نظر اجتماعي تاريخي سنني، مثل نظر الرسول صلى الله عليه و سلم إلى المشكلة الاجتماعية". إننا نؤكد مرة ثانية أن مفهوم السننية هو مفهوم قرآني يستمد معناه و دلالاته من النص القرآني و طريقته في إدراج و استخدام هذا المصطلح في السياقات المختلفة و النماذج و الأمثلة التاريخية التي يقدمها، إنه يختلف عن معنى القانون الطبيعي الذي يحكم حركة الوجود المادي في الكون و الإنسان و الذي يسمى في النص القرآني بالآيات، و هو يختلف عن معنى القانون التاريخي و الاجتماعي بالمعنى الذي يتحدث عنه ابن خلدون و الذي يتوسل به كل من مالك بن نبي و جودت سعيد لتحويل مفهوم السننية إلى قانون اجتماعي تاريخي ثابت و دائم التأثير في كل الأزمنة و العصور بذات الطريقة و في ذات الوجهة، إذ أن ابن خلدون لم يذكر مفهوم السننية و لا مرة في مقدمته و لم يتحدث عنه، إنما كان يتحدث عن قوانين الدولة و الملك و الحضارة، لكن جودت سعيد يعيد تفسير النصوص من مقدمة ابن خلدون ليحشر فيها حشراً كلمة "سنن" و هو ينطلق في حديثه عن ابن خلدون بقوله" إنه كشف السنة كشيء حتمي لا كسنة يمكن السيطرة عليها" ثم يورد نصاً لابن خلدون لكنه يرى أن من الواجب تصحيح العبارة للمؤلف و تقويمها فيقول" فهذا الذي يسميه ابن خلدون باطن التاريخ، هو الذي سميناه الخاص بالأقوام في تغير ما بالأنفس مما أقدرهم الله عليه" و في موضع آخر يقول " و لابن خلدون العذر في أن تكون عباراته غير دقيقة، حيث جعل مرد ذلك إلى العوائد المترسخة، التي يمكن أن تمثل ما نطلق عليه نتائج ما بالأنفس". ما نود تأكيده هنا هو أننا لا ننكر أن حياة البشر و حياة الكون بأكمله تستند إلى قانون و هذا القانون له صفات الثبات و الشمولية و غيرها، لكن مفهوم السننية هو مفهوم قرآني له مدلولاته الخاصة المستمدة من النص القرآني في حديثه عن علاقة الخالق عز و جل بخلقه، إننا نرى أن السننية بالمعنى القرآني لا يتحقق معناها إلا إذا فهمناها في سياق العلاقة الإيمانية التي تربط المجتمع و أفراده بالخالق، إنها ليست قانوناً أرضياً عاماً، بقدر ما هي تمثيل لخصوصية تدخل السماء في الشأن الإنساني على مقتضى الحكمة الإلهية في التدبير. و إن تأكيد النص القرآني على طابع الحتمية و الثبات الذي يصبغ السنن (و لن تجد لسنة الله تبديلا) هو تأكيد على حتمية هذا التدخل مهما طال الزمن و تباعدت المسافات دون أن يكون هذا التدخل مشروطاً بظروف زمنية أو مكانية أرضية لتجعل منه قانوناً طبيعياً أو تاريخياً. و حتى لو افترضنا أن مفهوم السننية يشمل في معناه القانون التاريخي، أو حتى الطبيعي، لكن ذلك لا يمكن أن يقودنا إلى قصر هذا المفهوم على معنى القانون السببي لأن دلالاته في مصدره الأول الذي هو كتاب الله أوسع من مجرد كونه قانوناً تاريخياً، إنه يشير إلى التدبير الإلهي للحياة على مقتضى الحكمة الإلهية، و لا يمكن للحكمة أن تكون قانوناً حتى لو توافقت مع القانون.

المصدر: شبكة القلم الفكرية ( http://www.alqlm.com/index.cfm?method=home.con&contentid=358) .

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير