تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

أي بديل آخر لهذا النموذج غير ممكن وغير مقبول)، وهي التي يسميها البازعي (الخطابية الواثقة).

ويتحدث - كذلك - عن (أدلجة) هذا الخطاب الديني، وهو يمارسها من خلال استبداله بأيديولوجية - أخرى - وهي الحداثة، ولهذا يختصر حنفي كل هذا الكلام فيقول بوضوح: (كل فلسفة هي بطريقة ما أيديولوجيا).

بل حتى مشكلة الفهم والاستيعاب التي ما يلبث الخطاب الحداثي في اتهام الخطاب الديني بها، هي بذاتها واقعة في خطابه حتى في نظر كبار مفكري الحداثة العربية، يقول الجابري عن سوء ترجمة المسوقين للفكر الغربي: (أنا شخصيا عندما أقرأ كتابا ترجم في هذا العصر إلى العربية في موضوع فلسفي لا أفهمه ... ).

وأحد أهم أسباب سوء الترجمة، ضعف الفهم والاستيعاب، أختم هذه الفكرة بتوصيف جميل لواحد من رواد الحداثة، وهو علي حرب، حين يصف فكر محمد أركون: (يحدثنا عن أشياء ليغيب أشياء، يعدنا بالتحرر من سواه من النصوص، فيما هو يقيم سلطته ويحجب أثره، يزعزع الثقة بمرجعيات قائمة لكي يؤسس مرجعيته، يريد العودة إلى الأصل الأول، فيما هو ينسخ الأصل نفسه، يدعوك إلى ممارسة حريتك في التفكير وحقك في النقد، فيما هو يمارس وصايته على الحقيقة والحرية.

الإفراز الفكري الخاص

وأنتقل إلى مناقشة بعض الحقائق التي تخالف الواقع، مما تضمنه مقال الكاتب، كتلك التي يصف فيها الخطاب الديني بالوقوف أمام المنجزات الإنسانية، وأنه - كما يقول: (غير آبه بما بذلته البشرية من جهد في تقصي أسباب مشاكلها وما رسمته من حلول ... )، (عالم أصبح فيه المنجز الإنساني ملكا مشاعا للبشرية جمعاء)، فهل صحيح أن هذا الخطاب لم يأبه بما بذلته البشرية من جهد إنساني؟

بطبيعية الحال ليس الأمر كذلك، شريطة أن تكون هذه المنجزات (ملكا مشاعا للبشرية جمعاء) أي بعبارة أخرى: عندما ينفصل هذا المنجز عن (التحيزات)، كما يعبر المسيري وغيره.

أما عندما لا يملك هذه الملكية المشاعة، فلكل أمة خصوصيتها، وهي خصوصية تؤمن بها أطياف أخرى ليست محسوبة على الخطاب الديني، كما يقول حسن حنفي: (كل حضارة خاصة، ولا توجد حضارة عامة تمثل الحضارات جميعا ... ). والمشكلة مع الخطاب الحداثي أنه أدخل في المنجز البشري المشاع هو من عمق (الإفراز الفكري الخاص)، الذي لا يأخذ صفة الكونية حتى عند منتجي هذا الفكر، بل لقد وصل الأمر ببعض أصحاب هذا الفكر مثل - نصر أبو زيد - إلى أن يقترح استبدال كلمة (الحضارة الغربية) بكلمة (الحضارة الحديثة)، لأنها نتاج بشري متراكم متجردة من جميع التحيزات!!!.

يقول الناقد الأمريكي ج هلس ملر في نقد هذه الفكرة: (على الرغم من أن النظرية قد تبدو موضوعية وعالمية مثل أي اختراع تقني، فإنها في حقيقة الأمر تنمو في مكان وزمان وثقافة ولغة محددة، وتبقى مربوطة إلى ذلك المكان واللغة). والأمر كذلك عند بولين يو أستاذة الأدب الصيني في جامعة كولومبيا الأمريكية، وعند إليا بريغوجين عالم الكيمياء الروسي الفائز بجائزة نوبل وغيرهم، هذه مقولات أصحاب الفكر نفسه، فهل أصبح الحديث عن ذلك من إفرازات الخطاب الديني وحده؟

ولما استورد كثير من أصحاب هذا الفكر الحداثي هذه المناهج الفكرية من الغرب ليطبقها على التراث الإسلامي، ووجد أمامه ممانعة قوية لاستيراد هذه المناهج أضفى عليها صفة الكونية، وهذه الحالة من «الاقتراض الشديد» - كما يسميها إحسان عباس - أدت إلى اختلال منهجي في هذا الفكر، يحكي ذلك حسن حنفي عن تجربته وتجربة جيله فيقول: (أما جيلنا الخامس، فقد ترجمنا فلسفة الأنوار بلا هدف واضح مجرد نقل لتراث الغير وبلا إعادة، بناء على موروثنا القديم). ويقول: (ولما كانت نظريات المعرفة في الغرب متجددة ... ظل الفكر العربي لاهثا وراء هذا الإيقاع السريع، فلا هو أصل معرفته ولا هو أدرك واقعه ... كل منهم ينهل من مصدر غربي، يظهر مهارته في حداثة الاطلاع، وجدة المصطلحات، وأسماء المذاهب والأعلام ... ).

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير