تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

هذا الكلام مزعج عندما يقوله الخطاب الديني، وهو أشد إزعاجا عندما يصدر ممن لا ينتسب إليه، بل يقف في مقابلته، ولذلك لا يخفي الجابري دهشته وهو يقرأ مثل هذا الكلام من حنفي فيقول - معلقا عليه -: (وأنا أفهم مثل هذه التصريحات عندما تصدر عن أولئك العلماء التقليديين الذين درجنا على تسميتهم بالسلفيين ... ولكن الذي يصعب تفهمه، هو أن تصدر مثل تلك التصريحات عن كتاب ومؤلفين درسوا في الغرب وبضاعتهم من اللغات الغربية والثقافة الغربية ذات اعتبار.

إن المشكلة ليست مشكلة سلفيين أو غيرهم - كما يصورها الجابري وغيره - إنها في حقيقة الأمر: مشكلة الحقيقة والواقع التي يحاول كثير من أصحاب هذا الفكر غض الطرف عنها، هذه الحقيقة، هي التي جعلت الجابري في يوم (ما) يعود مرة أخرى ليبين جانبا آخر من جوانب (ظاهرة الاستهلاك الفكري) عندما يقول: (فعلا، يطغى على تعاملنا مع الفكر الغربي هذا النوع من ممارسة المنهج المطبق بهذا الشكل ... نستورد الفكر بكل مضمراته الأيديولوجية، وبكل أسسه المادية، وحتى بعض تطلعاته ... إننا نستهلك فقط.

إن هذه الحالة من التبعية الفكرية للمناهج الغربية جعلت الجابري يقول - بنوع من الأسف - وبكل صراحة ووضوح: (لم يعد الأوروبيون اليوم في حاجة إلى مستشرقين من بني جلدتهم ينقلون إليهم خبر الشرق، فهناك من أبناء الشرق نفسه من يقومون بـ «المهمة» سواء داخل «مراكز بحث» في أوروبا وأمريكا أو داخل «مراكز الدراسات» في كثير من العواصم العربية. وهذا يكفي!!).

تحنيط الدين

وأختم بالتعليق على نظرة الكاتب في قوله: (بين الدين والخطاب الديني مسافة تجعلهما غير قابلين للتداخل أو الالتباس، ذلك أنها مسافة ما بين الإلهي والبشري، مسافة ما بين ما هو مقدس، وما لا ينبغي أن نحيطه بهالة من القداسة).

هذا الحديث حول الفصل التام بين الدين والخطاب الديني، يقود في نهاية الأمر إلى ما يمكن أن نسميه (تحنيط الدين)، بمعنى عدم فاعلية الدين في المجتمع، ومن أجل ذلك يفسر الكاتب جوهر الدين بقوله: (ونعني بجوهر الدين طبيعته العقدية الصافية التي تتمثل في التجربة الروحية وصلة العبد بربه)، وهو تفسير ينحو المنحى الصوفي في التعامل مع الدين، وحتى لا تواجه هذه الدعوة بشيء من ردة الفعل يقدم الكاتب التبرير المتكرر: حتى لا يتم (تعريض جوهر الدين النقي للتلوث بمشاغل العصر وشؤونه ... ).

وهذه النظرة للدين مخالفة للواقع العملي حتى عند الفكر الحداثي نفسه، لأنه عندما يريد أن يوظف النص الديني في بعض شؤونه بدون استثناء، فإنه لا يتأخر عن ذلك، وهو بذلك يقع في نفس المشكلة - التي يهرب منها - وهي تلويث جوهر الدين النقي بمشاغل العصر.

وهذه الأطروحة هي دعوة إلى (علمنة الدين)، فالدين في جوهره: العلاقة الروحية التي ترتبط بصلة العبد بربه، والخروج بالدين عن ذلك، هو خروج أيديولوجي عند هذا الفكر.

وما أحب التعليق عليه، هو أن هذا الفصل الذي يتكرر في الطرح الحداثي بين النص وفهم النص أن النص هو المقدس، وأما فهمه فلا ينبغي أن يعطى بهالة من القداسة، هو طرح يحاول اختزال صورة القضية من خلال ثنائيات غير صحيحة، والإشكاليات العلمية التي تقف أمام هذا الطرح كثيرة، غير أن واحدا من أهمها: أنه لا يفرق في أطروحته بين منهج الفهم، وبين تطبيق هذا المنهج.

ويصور للقارئ أن الخطاب الديني يجمع بينهما، بينما الأمر ليس كذلك، فمنهج الفهم لا شك عند أصحاب الخطاب الديني أنه مقدس، وسبب تقديسه، لأنه يقوم على أسس علمية موضوعية، وحتى الفكر الحداثي عندما يطرح بديله المنهجي مهما كان هذا البديل، فإنه سيقع من حيث يشعر أو لا يشعر في دائرة التقديس، لكن القضية فقط تحتاج إلى وضوح في الرؤية وصراحة في الموقف، وفرق بين أن نقول بقداسة المنهج، وبين أن نقول بقداسة تطبيق المجتهدين له، لأن تطبيقهم جهد بشري يدخله الخطأ والصواب، ومن أجل ذلك أصل الخطاب الديني لفكرة محاربة التقليد، والتي تعني عدم قداسة المجتهدين، مؤكدة أهمية الرجوع إلى قداسة المنهج، وهذه أبجديات الخطاب الديني لا تفتأ أن تنقل للدارسين مقولة عن أبي حنيفة يقول فيها: (فإننا بشر نقول القول اليوم ونرجع عنه غدا)، هذا من جهة التطبيق.

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير