تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

وكنت من قبل قد صنعت نفس الشىء مع المتنبى فاتضح لى أن الرجل مسلمٌ عادىٌّ مثلى ومثل ملايين المسلمين رغم ما لاحظته أحيانا على شعره من الإغراق فى بعض المبالغات التى ينبغى ألا نحمّلها ما لا تحتمل، بل علينا أن نفهمها فى إطار فنه الشعرى. ويجد القارئ هذا الكلام فى كتابى: "المتنبى- دراسة جديدة لحياته وشخصيته". كذلك كنت تناولت المسألة ذاتها فيما يخص الشهرستانى صاحب "الملل والنحل"، إذ كان قد تعرَّض لمثل تلك التهمة، فتبين لى أن إسلام الرجل لا غبار عليه وأنه ليس فى يد متهميه أى دليل على صحة ما يرمونه به فى دينه. ولمن يريد الاطلاع على هذا الموضوع يمكنه أن يقرأه فى الفصل الذى خصصته لذلك المفكر الكبير فى كتابى: "من ذخائر المكتبة العربية".

والحق أننى ما إن قرأت الفقرة التى وردت فى الرسالة المشباكية التى بعث بها إلىّ الأستاذ ثابت عيد حتى انتفضتْ من مكمنها نيتى القديمة التى كنتُ عَقَدْتُها لدراسة هذا الموضوع والتى لم يمنعنى من وضعها موضع التحقيق طوال تلك الأعوام الطويلة سوى أننى لم أستطع العثور فى أى مكان على الرد الذى ألفه القاسم بن إبراهيم من علماء القرن الرابع الهجرى ضد ما قال إنه معارضة من ابن المقفع للقرآن الكريم، والذى نشره المستشرق الإيطالى فى عشرينات القرن الفائت فى روما.

وكأننى هذه المرة كنت مع القَدَر فى تلك القضية على ميعاد، إذ سرعان ما وجدنا الرد المذكور بعد أن انتفضت نيتى لمعالجة الموضوع بعدة أيام قلائل، وعلى يد الأستاذ عيد نفسه، ومن سويسرا حيث وجده فى مكتبة خارج المدينة التى يقطنها، فقامت مكتبة الجامعة فى مدينته باستعارته له من تلك المكتبة الأخرى، فصوره وأرسله لى بالمِصْوار (السكانر)، كل ذلك فى غضون أربعة أيام. وكنت قد شرعت فى القراءة اللازمة للموضوع وكتابة النقاط التى لم تكن تعتمد مباشرة على كتيّب القاسم بن إبراهيم المعروف بـ"ابن طباطبا"، مستعينا مؤقتا بالفقرات التى استقاها د. عبد اللطيف حمزة من الرد المذكور فى كتابه عن ابن المقفع، وبالبحث الذى كتبه المستشرق السويسرى يوسف فان إس بالإنجليزية فى موضوع مشابه، وفيه فقرات أخرى منسوبة إلى ابن المقفع غير التى أوردها د. حمزة يقال إنه قد أنشأها يعارض بها القرآن الكريم. وهذا البحث منشور فى كتاب تذكارى أخرجته الجامعة الأمريكية ببيروت لدن بلوغ د. إحسان عباس الستين من عمره، ووافانى به الأستاذ ثابت مشكورا فى إحدى رسائله المشباكية إلىّ. حتى إذا وصلنى الرد كنت أوشكت على الفروغ من البحث. ثم عكفت مرة أخرى لبضع ليال عليه أَسُدّ ثُغُراتِه فى ضوء ما يشتمل عليه رد القاسم بن إبراهيم، وبعد أن أكرمنى الله بنسخة أخرى من هذا الرد بتحقيق جديد لأحد المصريين أحضرتْها طالبة من طالباتى الناشطات الذكيات المهتمات بالعلم والبحث، وهى الآنسة فاطمة السيد طالبة الدراسات العليا بالكلية، جزاها الله خيرا على تلك اليد الكريمة. فكان هذا البحث الذى بين يدى القارئ الكريم.

والرجل الذى نحاول دراسة التهمة الموجهة إلى عقيدته هو عبد الله بن المقفع الكاتب الأموى العباسى المشهور. وهو من أهل القرن الثانى للهجرة. وُلِد بالبصرة حيث نشأ نشأة عربية وتأثر أيضا بثقافة أُسرته الفارسية. وكان يتقن لغة الفرس ولغة العرب جميعا، ثم أصبح كاتبًا لآل هبيرة فى أواخر العصر الأموى. وعند قيام الدولة العباسية اتصل بعم الخليفة المنصور، عيسى بن على، وأصبح كاتبا لديه ذا حظوة. وتحكى الروايات أن ابن المقفع قال لعيسى بن على ذات ليلة: قد دخل الإسلام في قلبى، وأريد أن أُسْلِم على يدك. فقال له عيسى: ليكن ذلك بمحضر من القواد ووجوه الناس. فإذا كان الغد فاحضر. ثم حضر طعام عيسى عشية ذلك اليوم، فجلس ابن المقفع يأكل ويزمزم على عادة المجوس. فقال له عيسى: أتزمزم وأنت على عزم الإسلام؟ فقال: أكره أن أبيت على غير دين. فلما أصبح أسلم على يده. وابن المقفَّع عَلَمٌ من أعلام الكتاب يتسم إبداعه بقوة الأسلوب وروعة القص والتحليل. ومن أشهر ما وصل إلينا من تراثه الفكرى والأدبى "كليلة ودمنة، والأدب الصغير، والأدب الكبير، ورسالة الصحابة، والدُّرَّة اليتيمة".

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير