تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

فإذا انتقلنا إلى قضيتنا التى عَقَدْنا لها هذا البحث فأول شىء ننظر فيه هو تلك الحكاية التى أشرنا إليها قبل قليل، والتى وردت فى "وَفَيَات الأعيان" لابن خَلِّكان، فهى مثال على الأخبار التى لا تثبت على التمحيص لما فيها من أشياء لا يقبلها المنطق، إذ ما دام الإسلام قد دخل قلب الرجل فمعنى هذا أنه أمسى مسلما، فالإسلام إنما يُعْنَى أولا وقبل كل شىء بالنية، ولا يقف عند الرسوم والأشكال كثيرا. وما دام الرجل قد انتهى إلى أن ما كان عليه من دين أسلافه لم يعد يدخل العقل أو القلب، فكيف يصر على أن يتبع رسومه وشعائره إلى الغد حينما يحضر كبار رجال الدولة وأعيانها، وهو الذى لم يعد مقتنعا به؟ أوَيمكن التصديق بأنّ من دخل الإسلام قلبه (ومن؟ إنه ابن المقفع نفسه، أحد كبار كتاب عصره) يقبل أن يظل متمسكا بديانته الوثنية القديمة ومناسكها على هذا النحو المضحك لأن مولاه آثر أن يؤجل مراسم إعلان إسلامه إلى أن يجتمع عنده كبار رجال الدولة من الغد؟ إن كل ما عرضه عليه عيسى بن على هو تأجيل الإعلان الرسمى لا أكثر، ولم يعرض عليه أن يؤجل دخوله فى الإسلام إلى الصباح، إذ كان ابن المقفع قد صار مسلما وانتهى الأمر بمجرد أن اقتنع بدين النبى العربى كما أكد ذلك لعم الخليفة.

وإذا كان كاتبنا قد عز عليه أن يبيت على غير دين فلم يا ترى لم يسمّ اسم الله على الطعام ويكون قد بات على الإسلام، وهو الدين الذى نوى أن يعلنه على الملإ من غده؟ أقول: على الملإ لا بينه وبين ربه، لأن الأمر بينه وبين ربه قد بات محسوما! إن الطبيعى أن يكون سيره فى نفس الاتجاه الذى نوى أن يمضى فيه كما يقضى المنطق والعقل لا بعكسه. أليس كذلك؟ ثم إذا كانت الزمزمة هى تراطن العلوج على أكلهم وهم صموت لا يستعملون لسانا ولا شفة، ولكنه صوت يديرونه في خياشيمهم وحلوقهم فيفهم بعضهم عن بعض كما جاء فى "القاموس المحيط"، فلماذا يا ترى زمزم ابن المقفع على الطعام فى تلك الليلة، وليس ثَمَّ ناس على دينه القديم يتفاهم معهم بهذه الزمزمة؟ أتراه كان بعقله خلل؟ لكنْ أمثل ابن المقفع يصاب فى عقله بخلل كهذا، وفى ظرف كهذا، وأمام واحد من كبار رجال الدولة كهذا؟ من هنا فإنى أرفض هذه الجانب من الرواية كما سأرفض أشياء أخرى عن ابن المقفع وإسلامه وزندقته لا تقنع الطفل الصغير رغم ترددها فى عدد من الكتب.

على أن إثارة الريبة فى إسلام الرجل لم تقتصر على هذا الخبر الساذج، بل تجاوزته إلى ما رواه ابن شبة ونقله عنه المرتضَى فى "أماليه"، قال: "حدثني من سمع ابن المقفع، وقد مر ببيت نار للمجوس بعد أن أسلم، فلمحه وتمثل:

يا بيتَ عاتكةَ الذي أَتَعَزَّلُ * حَذَر العِدا، وبكَ الفؤاد مُوَكَّلُ

إني لأمنحكَ الصدودَ، وإنني * قَسَمًا إليك مع الصدود لأَمْيَلُ"

وهو كلام لا وشيجة بينه وبين أى منطق، إذ الرجل قد أسلم من تلقاء نفسه قائلا إن الإسلام دخل قلبه، ولم يضربه أحد على يده. ولقد رأينا عم الخليفة يقترح عليه تأجيل إعلانه الإسلام إلى الغد. ولو كان هناك أدنى شك فى أنه إنما اعتنق الإسلام بناء على حريته المطلقة ولم يجبره مجبر على ذلك لسارع عيسى بن على إلى الإمساك بهذه الفرصة ولم يقترح عليه ذلك المقترَح خشية أن يتراجع فى قراره مثلا. وأمثال ابن المقفع إذا أقدموا على تغيير عقيدتهم فإنهم لا يفعلون هذا إلا بعد تروٍّ وتقليب للأمر على جميع وجوهه، وبخاصة أنه كان يمارس ديانته الأولى بحرية كاملة مثلما كان أبوه يمارسها رغم توليه وظيفة مالية هامة فى الدولة الأموية، ودون أن يفكر أحد فى إكراههما على نبذ ديانتهما.

ليس هذا فحسب، إذ تخبرنا الرواية أن أحدهم قد سمع ابن المقفع وهو يتمثل ببيتى الأحوص لدن مروره ببيت النار. فمن ذلك الرجل يا ترى؟ وكيف سمع ابن المقفع؟ وأين كان وقتها؟ ومن أدراه، لو صدقنا أن ابن المقفع قد استشهد فعلا ببيتى الشاعر الأموى وأنه قد سمعه بأذنيه هاتين اللتين سيأكلهما الدود، بأنه إنما كان يقصد التعبير عن حنينه إلى دينه القديم لا سواه؟ ولماذا لم يفاتحه ذلك المتجسس فيما سمعه منه فيوبخه أو يعاتبه أو يجادله فى الأمر: فإما أقنعه بانحراف موقفه وإما شهّر به وفضحه فى العالمين؟ إن أمرا كهذا من شخص كابن المقفع لا يمكن أن يمر مرور الكرام على ذلك النحو الذى تريد الرواية أن توهمنا به. وبالمناسبة

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير