وذهب الرسول إلى باب جبلة، فإذا عليه من القهارمة والحجّاب والبهجة وكثرة الجمع مثل ما على باب هرقل. قال الرسول: فلم أزل أتلطف في الإذن حتى أذن لي، فدخلت عليه فرأيت رجلاً أصهب اللحية ذا سبال، وكان عهدي به أسمر أسود اللحية والرأس. فنظرت إليه فأنكرته، فإذا هو قد دعا بسُحَالة الذهب فذَرَّها في لحيته حتى عاد أصهب، وهو قاعد على سرير من قوارير، قوائمه أربعة أُسُود من ذهب. فلما عرفني رفعني معه في السرير، فجعل يسائلني عن المسلمين، فذكرت خيرًا وقلت: قد أضعفوا أضعافًا على ما تعرف.
فقال: كيف تركت عمر بن الخطاب؟
قلت: بخير.
فرأيت الغم قد تبين فيه لما ذكرت له من سلامة عمر. قال: فانحدرت عن السرير، فقال: لم تأبى الكرامة التي أكرمناك بها؟ قلت: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن هذا. قال: نعم، صلى الله عليه وسلم، ولكن نَقِّ قلبك من الدنس، ولا تُبَالِ علامَ قعدت. فلما سمعته يقول: "صلى الله عليه وسلم" طمعتُ فيه. فقلت له: ويحك يا جَبَلة! ألا تُسْلِم، وقد عرفتَ الإسلام وفضله؟
قال: أبعد ما كان مني؟
قلت: نعم، قد فعل رجل من بني فزارة أكثر مما فعلت. ارتد عن الإسلام وضرب وجوه المسلمين بالسيف، ثم رجع إلى الإسلام، وقُبِل ذلك منه، وخَلَّفْتُه بالمدينة مسلما.
قال: ذَرْني من هذا. إن كنت تضمن لي أن يزوجني عمر ابنته ويوليني الأمر من بعده رجعت إلى الإسلام.
قلت: ضمنت لك التزوج، ولم أضمن لك الإمرة.
قال: فأومأ إلى خادم بين يديه، فذهب مسرعًا، فإذا خدم قد جاءوا يحملون الصناديق فيها الطعام، فوُضِعَتْ ونُصِبَتْ موائد الذهب وصحاف الفضة، وقال لي: كل.
فقبضت يدي وقلت: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن الأكل في آنية الذهب والفضة.
فقال: نعم، صلى الله عليه وسلم، ولكن نَقِّ قلبك، وكُلْ فيما أحببت.
قال: فأكل في الذهب والفضة، وأكلتُ في الخليج. فلما رُفِع الطعام جيء بطِسَاس الفضة وأباريق الذهب، وأومأ إلى خادم بين يديه، فمر مسرعًا، فسمعت حِسًّا فالتفتُّ، فإذا خدم معهن الكراسي مرصعة بالجواهر، فوُضِعَتْ عشرة عن يمينه وعشرة عن يساره. ثم سمعت حِسًّا، فإذا عشر جَوَارٍ قد أقبلن مطمومات الشعر متكسرات في الحَلْي عليهن ثياب الديباج، فلم أر وجوها قط أحسن منهن، فأقعدهن على الكراسي عن يمينه. ثم سمعت حِسًّا، فإذا عشر جوارٍ أخرى، فأجلسهن على الكراسي عن يساره. ثم سمعت حِسًّا، فإذا جارية كأنها الشمس حُسْنًا، وعلى رأسها تاج، وعلى ذلك التاج طائر لم أر أحسن منه، وفي يدها اليمنى جامٌ فيه مسك وعنبر، وفي يدها اليسرى جامٌ فيه ماء ورد. فأومأتْ إلى الطائر، أو قال: فصفرت بالطائر، فوقع في جامِ ماء الورد فاضطرب فيه. ثم أومأت إليه، أو قال: فصفرت به، فطار حتى نزل على صليب في تاج جبلة، فلم يزل يرفرف حتى نفض ماء ريشه عليه، وضحك جَبَلة من شدة السرور حتى بدت أنيابه، ثم التفت إلى الجواري اللواتي عن يمينه، فقال: بالله أطربنني. فاندفعن يتغنَّيْنَ، يخفقن بعيدانهن ويقلن:
لله دَرُّ عصابة نادمتُهم * يومًا بجِلَّقَ في الزمان الأوّلِ
يُسْقَوْن من ورد البريص، عليهمو * بَرَدَى يصفّق بالرحيق السَّلْسَلِ
أولاد جفنة حول قبر أبيهمو * قبر ابن ماريةَ الكريم المُفْضِلِ
يُغْشَوْن حتى ما تهرُّ كلابهم * لا يسألون عن السواد المقبلِ
بيض الوجوه كريمة أحسابهم * شُمّ الأنوف من الطراز الأولِ
قال: فضحك حتى بدت نواجذه، ثم قال: أتدري من قائل هذا؟
قلت: لا.
قال: قائله حسان بن ثابت شاعر رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ثم التفت إلى الجواري اللاتي عن يساره، فقال: بالله أَبْكِينَنَا.
فاندفعن يتغنَّيْنَ، يخفقن بعيدانهن ويقلن:
لمن الديارُ أقفرتْ بمعانِ * بين أعلى اليرموك فالخمّانِ؟
ذاك مَغْنًى لآل جفنةَ في الدهر محلاًّ لحادث الأزمانِ
قد أراني هناك دهرًا مكينًا * عند ذلك التاج مقعدي ومكاني
ودنا الفِصْحُ فالولائد يَنْظِمْن سراعًا أَكِلّة المرجانِ
لم يُعَلَّلْن بالمغافير والصمغ ولا نَقْف حنظل الشريانِ
قال: فبكى حتى جعلت الدموع تسيل على لحيته، ثم قال: أتدري من قائل هذا؟
قلت: لا أدري.
قال: حسان بن ثابت.
ثم أنشأ يقول:
تنصَّرَتِ الأشراف من عار لطمةٍٍ * ما كاان فيها، لو صبرتُ لها، ضررْ
تكنَّفني منها لجاجٌ ونخوةٌ * وبعتُ لها العين الصحيحة بالعَوَرْ
¥