ومن الممكن أن يكون الله تعالى قد ذم الأصنام بأول تلك العبارات نفسها التي كانوا يمدحون بها أصنامهم؛ خاصة وأنه أشهدهم في أول الآية بقوله (أفرأيتم) وهو استفهام معناه التقرير والتهكم التوبيخ؛ فألقى الشيطان في قلوبهم بقية العبارة؛ فظنوا أن النبي صلى الله عليه وسلم قد غيّر موقفه من آلهتهم المزعومة أو قد يكونون قد اختلقوا ذلك وأسمعوه بعضهم، لكن المهم إذا صح ذلك هو في أي وقت جاءت هذه العبارة على لسان الشيطان؟ وما هو هذا الشيطان؟ وكيف قالها هذا الشيطان؟.
ـ[جمال الدين عبد العزيز]ــــــــ[31 Aug 2009, 12:18 ص]ـ
سبب سجود المشركين:-
بمعزل عن روايات الغرانيق فقد جاء في الروايات الصحيحة أن المشركين قد سجدوا مع النبي صلى الله عليه وسلم في سورة النجم، وذهب الالوسي إلى أنهم سجدوا خوفاً، إذ أن في سياق السورة تهديد شديد وذكر سيد قطب أنهم سجدوا إعجابا ببلاغة القرآن وسحر البيان الذي سلب ألبابهم وأخذ بأفئدتهم، وذكر سليمان بن عبد الله أنهم سجدوا لظنهم أن النبي صلى الله عليه وسلم وافقهم في ما يقولون، ومن الممكن أن يجتمع لدى المشركين الخوف والإعجاب والوهم فيقوى الإحساس بذلك ثم يقودهم إلى تقليد النبي صلى الله عليه وسلم في السجود، ولهذه الاستجابة من المشركين تجاه القرآن نظائر أخرى، وبذلك يمكن أن تحمل الروايات الضعيفة إلى تلك الصحيحة فيستقيم معناها؛ خلافاً لمن حاول حمل الصحيح على الضعيف ابتغاء للفتنة وابتغاء تأويل الصحيح.
ولهذا يتصور الباحث القصة كالآتي: أن النبي صلى الله عليه وسلم لما قرأ (أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى)، أي: ما تعرفونه من أصنامكم نحو اللات والعزى ومناة فشابه صدر الآية ما يقولون في الجاهلية ألقى الشيطان بقية ما كان يقولون من كلام، وهذا الشيطان إما أن يكون إنساناً كالنضر ابن الحارث أو ابن الزبعري أو جاناً، والشيطان يكون من الإنس والجن كما ذكر القرآن: (شَيَاطِينَ الإِنسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا) وبهذا يكون هنالك طريقان:-
1 - إذا كان الشيطان إنساناً فمعلوم أنه كان للمشركين لغط وصياح وضجيج عند تلاوة النبي صلى الله عليه وسلم للقرآن لإخفاء هذا القرآن باللغو؛ فلما سمع أحدهم (شيطانهم) صاح ببقية قول الجاهلية، وقد ضعف الرازي هذا الوجه، إذ لو وقع ذلك لصححه النبي صلى الله عليه وسلم في الحال ولنقل إلينا تصحيحه، وهذا وجه معقول مقبول إذا كان في غير وجود النبي صلى الله عليه وسلم.
2 - إذا كان الشيطان المقصود من الجن فإنه يوسوس للمشركين ببقية ما كانوا يقولون ففي رواية موسى بن عقبة أن الكفار قد سمعوا ذلك ولم يسمعه المسلمون؛ مما يدل على أن الوسوسة كانت في صدور الكافرين فحسب، وقد ضعف الرازي هذا الوجه أيضا
والحق أن عبارة الغرانيق لم تكن سبباً لسجود المشركين؛ بل كان السجود هو سبب العبارة؛ إذ يرى الباحث أن أولى التصورات بالقبول وأقربها إلى الحقيقة؛ هي: أن شيطان المشركين"أحدهم" الذي قال عبارة الغرانيق لم يقلها في لحظة تلاوة النبي صلى الله عليه وسلم وإنما اختلقها فيما بعد فركّب عبارة الجاهلية في القرآن حتى يبرر موقفا معينا، والنفس البشرية المعاندة المغلوبة على أمرها تميل إلى كل ما يبرر فعلها كما هو شائع؛ ولهذا ذهب ابن عاشور والمباركفوري إلى أن ابن الزبعري أو غيره من السفهاء قد حاول إيجاد معذرة لهم عند قومهم في سجودهم مع النبي صلى الله عليه وسلم فعمدوا إلى تلك الآية التي ذكر فيها اللات والعزى ومناة فركّبوا عليها تلك الكلمات لتبرير موقفهم من جهة ولإلقاء الفتنة بين الناس من جهة أخرى، هذا طبعا إذا صحت القصة كلها ابتداء.
ـ[جمال الدين عبد العزيز]ــــــــ[31 Aug 2009, 12:19 ص]ـ
خاتمة:-
ذهب كثير من العلماء إلى أن الروايات التي تحمل قصة الغرانيق روايات واهية ومرسلة لا أصل لها، وذهب ابن حجر إلى أن لها أصلا، ولكنها تحتاج إلى تأويل مختلف، وقد ذهب الألباني في الرد عليه إلى أن قاعدة تقوية المراسيل بكثرة الطرق ليست على إطلاقها، وليست مضطردة.
وقد ذهب كثير من العلماء إلى بيان كيفية وقوعها – لو كانت قد وقعت فرضا – وذهب الباحث إلى أن هذه القصة لا علاقة لها بالنبي صلى الله عليه وسلم ولا بآية سورة الحج ولا بآيات سورة النجم ولا بآية سورة الإسراء ولا بآية سورة الزمر ولا بآية سورة القصص ولا بآية سورة طه ولا برجوع المهاجرين من الحبشة ولا هي آيات منسوخة التلاوة ولا هي بالصحيحة في نفسها.
وإذا كانت هذه الحادثة قد وقعت فرضا فينبغي أن تحمل على الروايات الصحيحة في ذلك؛ نحو رواية البخاري والحاكم وأبي داود وابن حبان والبيهقي وأحمد بن حنبل وابن خزيمة؛ حيث روى هولاء الأئمة أن النبي صلى الله عليه وسلم قد قرأ سورة النجم وسجد في آخرها "سجدة تلاوة" فسجد معه المشركون، وبذلك يبدو واضحا للباحث أن المشركين قد حاولوا تبرير سجودهم لقومهم بعد خروجهم من مجلس النبي صلى الله عليه وسلم فركّبوا في الآيات ما كانوا يقولونه في الجاهلية في أصنامهم، ولهولاء المشركين كثير من الافتراءات والأكاذيب والحيل في محاولة إطفاء نور الله تعالى، ولا يكاد الباحث يتصور شكلا آخر للقصة لو وقعت، رغم أقوال العلماء الكثيرة في ذلك.
¥