الدنيا فى مبتدإ الأمر دون تطور أو تقدم. لكن ماذا نقول للحمقى المتاعيس؟
وفى ص 152 يستمر الوسواس الخناس فى تخطئة أسلوب القرآن الكريم فيزعم أن باب الالتفات (أى تغيُّر الضمير للشخص الواحد فى نفس الجملة من الخطاب للغيبة مثلا، أو من الغيبة إلى التكلم ... إلخ) قد اخْتُرِع لتغطية العيب الموجود فى آية "يونس" وأمثالها، إذ تَسْتَعْمِل تلك الآيةُ أولا ضميرَ المخاطبين فى خطابه عزّ وجلّ إلى البشر: "يُسَيِّركم، كنتم"، ثم يتغيّر الضمير من الخطاب إلى الغَيْبة فيقول سبحانه عنهم هم أنفسهم: "بهم، فرحوا، جاءهم، دَعَوْا". ونص الآية: "هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِهَا جَاءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (22) ". إن عِبْس يعيب الآية الكريمة ويتهمها بالركاكة والضعف والخطإ لاستعمالها هذا التركيب، مع أنه موجود فى الشعر العربى الجاهلى من قَبْل القرآن، وكذلك فى اللغات الأخرى.
وعلى كل حال فقد وجه السيوطى مثلا فى "الإتقان" الآية على النحو التالى، إذ قال عن الالتفات فى كتاب الله المجيد: "ومثاله من الخطاب إلى الغيبة: "حتى إذا كنتم في الفلك وجرين بهم "، والأصل: "بِكُمْ". ونكتة العدول عن خطابهم إلى حكاية حالهم لغيرهم التعجب من كفرهم وفعلهم، إذ لو استمر على خطابهم لفاتت تلك الفائدة. وقيل: لأن الخطاب أولا كان مع الناس مؤمنهم وكافرهم بدليل "هو الذي يسيركم في البر والبحر ". فلو كان "وجرين بكم" لَلَزِمَ الذَّمُّ للجميع فالتفتت عن الأول للإشارة إلى اختصاصه بهؤلاء الذين شأنُهم ما ذكره عنهم في آخر الآية عُدُولاً من الخطاب العام إلى الخاص. قلت: ورأيت عن بعض السلف في توجيهه عكس ذلك، وهو أن الخطاب أوله خاصّ، وآخره عامّ. فأخرج ابن أبي حاتم عن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم أنه قال في قوله: "حتى إذا كنتم في الفلك وجرين بهم "، قال: ذَكَرَ الحديثَ عنهم، ثم حدَّث عن غيرهم، ولم يقل: "وجرين بكم" لأنه قصد أن يجمعهم وغيرهم: "وجرين بهؤلاء وغيرهم من الخلق". هذه عبارته. فلله دَرُّ السَّلَف! ما كان أوقَفَهم على المعاني اللطيفة التي يدأب المتأخرون فيها زمانًا طويلاً ويُفْنُون فيها أعمارهم، ثم غايتهم أن يحوموا حول الحِمَى! ".
وفى "الإيضاح فى علوم البلاغة" للقزوينى: "التكلم والخطاب والغيبة مطلقا يُنْقَل كل واحد منهما إلى الآخر، ويسمى هذا النقل: "التفاتا" عند علماء المعاني، كقول ربيعة بن مقروم:
بانت سعادُ فأمسى القلب معمودا * وأخلفتك ابنةُ الحُرِّ المواعيدا
فالتفت كما ترى حيث لم يقل: "وأخلفتْني"، وقوله:
تذكرتَ، والذكرى تهيجك، زينبا * وأصبح باقي وصلها قد تقضَّبا
وحَلَّ بفلجٍ فالأباتر أهلُنا * وشطَّتْ فحَلَّتْ غمرةً فمثقّبا
فالتفتَ في البيتين ...
مثال الالتفات من التكلم إلى الخطاب قوله تعالى: "وما ليَ لا أعبد الذي فَطَرني وإليه تُرْجَعون". ومن التكلم إلى الغيبة قوله تعالى: "إنا أعطيناك الكوثر* فَصَلِّ لربك وانْحَرْ". ومن الخطاب إلى التكلم قول علقمة بن عبدة:
طحا بك قلبٌ في الحسان طَرُوبُ * بُعَيْدَ الشباب عَصْرَ حانَ مَشِيبُ
يكلِّفني ليلى، وقد شط وَلْيُها * وعادت عوادٍ بيننا وخطوبُ
ومن الخطاب إلى الغيبة قوله تعالى: "والله الذي أرسل الرياح فتثير سحابا فسقناه". ومن الغيبة إلى الخطاب قوله تعالى: "مالك يوم الدين* إياك نعبد"، وقول عبد الله بن عنمة:
ما إن ترى السيد زيدا في نفوسهمو * كما يراه بنو كوز ومرهوبُ
إن تسألوا الحق نُعْطِ الحقَّ سائلَه * والدرعُ مُحْقَبَةٌ، والسيف مقروبُ
وأما قول امرئ القيس:
تطاول ليلك بالإثمدِ * ونام الخليُّ ولم ترقدِ
وبات، وباتت له ليلةٌ * كليلة ذي العاثر الأرمدِ
وذلك من نبأٍ جاءني * وخُبِّرْتُه عن أبي الأسودِ
فقال الزمخشري فيه ثلاث التفاتات ...
¥