تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

واعلم أن الالتفات من محاسن الكلام. ووجه حسنه، على ما ذكر الزمخشري، هو أن الكلام إذا نُقِل من أسلوب إلى أسلوب كان ذلك أحسن تطرية لنشاط السامع وأكثر إيقاظا للإصغاء إليه من إجرائه على أسلوب واحد ... ".

وكثيرا ما يستعمل المتكلم لنفسه ضمير الغائب فيقول مثلا: "العبد لله هو صاحب هذا الإنجاز، ولا فخر"، أو "محسوبك (ويقابلها فى الإنجليزية: " your (humble) servant") يرجوك أن تفعل الأمر الفلانى"، أو "كاتب هذه السطور (ويقابلها فى الإنجليزية: " the present writer") يعتقد أن الصواب هو كذا وكذا" ... إلخ. وقد انتشرت هذه الأيام فى رسائل الماجستير والدكتوراه قول الطالب عن نفسه: "ويرى الباحث أن ... "، مستعملا هو أيضا ضمير الغائب رغم أنه إنما يتحدث عن نفسه، فكان المتوقع أن يستخدم ضمير المتكلم. كذلك يستعمل طه حسين لنفسه فى كتاب "الأيام" كلمة "صاحبنا" أو "صبيّنا" "أو "شيخنا الصبى" أو "الصبى" أو ضمير الغائب مباشرة، ولم يحدث أن لجأ فى الحديث عن ذاته إلى ضمير المتكلم قط. وفى "دروس من القرآن الكريم" للشيخ محمد عبده نجده يقول مثلا فى بداية فصل "العلم والتعليم": "إن بعض إخواننا الذين عرفناهم فى تونس قد طلبوا من الفقير مسامرة أو محاورة ... ثم قالوا: درسا، فسألنى بعضهم عن ذلك، فقلت: نعم هو درس، ولكن لا تظنوا أنه درس فى تحقيق مسألة علمية، فإن عندكم من جِلَّة العلماء من نعترف بفضلهم ... أما هذا الفقير فرجل سائح قصدتُ هذه الديار للتعرف ببعض المسلمين والنظر فى أحوالهم وأمور دينهم ... ". ففى هذه السطور تحدث الشيخ عن نفسه مرة بضمير جماعة المتكلمين، ومرة بضمير المفرد الغائب، وثالثة بضمير المتكلم المفرد، وكل ذلك فى سطور معدودات، وعلى نحو متعاقب لا يفصل بين المرة والمرة زمن على الإطلاق.

وفى قصة "قاسم" من مجموعة "المعذبون فى الأرض" يكتب طه حسين: "وفى القارئ حب للاستطلاع أقل ما يوصف به أنه يضايق الكاتب ويأخذ عليه الطريق، ويضطره إلى الوقوف حين كان يؤثر المضى فى كتابته أو يضطره إلى الاستطراد حين كان يفضل ألا يتجاوز الموضوع الذى يعرضه أو يقول فيه. والقارئ لا يكفيه ما أنبأتُه به من أن هذه الفتاة قد تغفلت أمها وانتهزت غيبة أبيها وانسلت من بيتها فى ظلمة الليل ... القارئ لا يكتفى بهذا، وإنما يجب أن يعرف كيف نشأت هذه الصلة المبكرة بين فتاة فى السابعة عشرة ورجل قد جاوز الشباب، وهو زوج عمتها. ولولا أنى أرفق بالقارئ ولا أحب أن أَشُقّ عليه ... لمضيتُ فى الحديث كما بدأته و لأبيتُ الانحراف إلى هذه الصلة البغيضة لأن الحديث عنها بغيض. ولكن لا بد مما ليس منه بد، فمن حق الكاتب أن يذهب ما شاء من المذاهب فى كتابته، ولكن من حق القارئ أيضا أن يفهم فى وضوح وجلاء ما يقدم إليه الكاتب من المقالات والفصول"، مراوحا بين استعمال ضمير الغائب (أو كلمة "الكاتب") وبين ضمير المتكلم فى الحديث عن نفسه، منتقلا بين هذه إلى تلك، أو من تلك إلى هذه، بغتة وعلى غير انتظار منا أو توقع.

وفى قصة "المعتزلة" من نفس المجموعة بينما نراه يتحدث عن القراء أو القارئ بصيغة الغائب إذا به فجأة يتجه إلى قارئه بالحديث المباشر مستخدما كلمة "يا سيدى". وفى قصة "رفيق" من ذات المجموعة نجده يتحدث عن بطل القصة بضمير الغائب أو مستعملا له كلمة "الصبى"، لنفاجأ فى منتصف القصة بانحراف الضمير فى الحديث عن الصبى إلى صيغة المفرد المتكلم دفعة واحدة دون أى تمهيد.

أم ترى عِبْس يقول بأننا، نحن والأوربيين، وطه حسين بالذات (وما أدراك ماطه حسين وموقفه من كتاب الله؟) نفعل كل هذا من أجل تغطية العيب الذى فى القرآن؟ إنه لأحمق عريق فى الحماقة! ترى أكان كفار العرب ومنافقوهم ويهودهم ونصاراهم يسكتون فلا يشنعوا على القرآن لو كان هذا خطأ فى الأسلوب؟ ثم ما الذى أوقع النبى فى هذا الخطإ لو كان هو مؤلف القرآن على ما يريد عِبْس أن يزرع فى النفوس؟ ترى هل يمكن أن يقع الإنسان فى لغته فى خطإ من هذا النوع ويتكرر منه كثيرا؟ ومع هذا كله نراه (ص154) يزعم أن من أهم أسباب نشأة علم البلاغة (علم البلاغة كله هذه المرة لا باب "الالتفات" فقط) فى لغة العرب الدفاع عن أخطاء القرآن، مع أن شواهد هذا العلم مستقاة من الشعر أولاً وقبل كل شىء، علاوة على أن هذا العلم موجود فى كل اللغات، ومنها اليونانية

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير