لقد طغت فكرة النصّ على سرّ النهضة وعلى حلم النهضة حتى توقّفت وخابت جميع الآمال في إنجاز مشروع النهضة، وانتعشت السلفيّة والأصوليّة والدمويّة والتجهيليّة لخنق أنفاس النهضة وتعطيل جميع المبادرات التي تؤدي إلى النهضة.
من المؤسف أن التاريخ لا يرقد ولا يركد إلاّ في بلادنا الإسلامية.
ماذا أقول؟ إنه حتّى في كثير من بلدان العالم الثالث لا يخلو من التدافع والحركة. فهو في الدنيا كلها تقريبا نهر متدفّق بل خضم متلاطم الأمواج. ولكنّه في بلادنا بحيرة ساكنة لا تثور.
ولا غرض لهذا الكتاب ولا هاجس وراءه إلا أن يُلقي حجرا في هذه البحيرة لعلّه يثيرها ويُخرجها عن هدوئها وانتظامها.
في أعماق هذا الكتاب رسالة تفوح منها ثورة حادّة ورغبة قويّة في التغيير واعتراض أساسي على منهج الحياة وخوف من مصائرها وتقلّباتها. حلم عميق يتردّد في كل صفحة فيه.
في الكتاب تقريع كثير وبكاء أكثر. فهو دعوة صارخة إلى أن تأخذ حياتنا مأخذاً جادّا، ونعمل على تصحيح واقعنا وتاريخنا وإنساننا إذا كنّا عقدنا العزم حقّا على قبول التحدّي ومواجهة الحقيقة المرّةً التي نجد صعوبة كبيرة في تحسّسها والاعتراف بها. لقد ساهمنا في إنتاج التخلّف بدلا من محاولة القضاء عليه.
هذا الكتاب يستحق المعاناة وصبر التأمل. إنه ينهك الأعصاب وقد يثيير الرعب. ولعلّ أقل ما يقال فيه إنه يحمل على التذمّر. القرآن حجر عثرة وسدّ منيع أمام كلّ نهضة أو تطوّر. إن أقول إلاّ الحقّ. فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر. وما كنت عليكم حفيظا. لقد بلّغت الرسالة، وأدّيتُ الأمانة. فاشهدوا. وأنا معكم من الشاهدين. لقد أتيتكم بسلطان مبين. فماذا تحكمون؟
إننا نتحدّث كثيرا في ما لا ينفعنا. ونسكت عما ينفعنا. أريد أن أكون صديقا للقارئ. فما كتبتُ ما كتبتُ إلاّ بقلب مخلص يشتاقُ إلى التغيير. وإني لعلى استعداد أن أموت على مذبح التغيير.
في هذا الكتاب صورة تختلف عن الصور المتداولة في "السوق". أريد بناء عقليّة جديدة على أنقاض العقول السائدة. أريد أن أغرس نبتة من التفكير العلماني الحرّالمستقلّ الذي لا يخاف ولا يعبأ بالتضحيات والأضاحي. أريد أن أثير جوّاً ساخنا من الأسئلة والتساؤلات التي نتردّى فيها، حول أصل الداء وحول ما يوصف له من دواء.
أنا لا أشجّع القارئ على أن يوافق على ما أقول موافقةً صمّاء، وإن كنت واثقاً من كلّ ما أقول ومن أنّ كلّ كلمة أقولها هي كلمة محسوبة موضوعة في مكانها الصحيح. ولكن حريّة القارئ فوق كلّ ما أكتب وما أقول.
الإنسان المسلم هو أكبر همّي. إن غاية ما أتمنّى أن أزجّ بهذا الإنسان، لا في "تيّار الحداثة" فحسب، بل و"في أتّون الحداثة"، لأنّ التيّار لا يطهّر، بل قد يكون ملوّثا. وأما الأتّون فهو كفيل بإحراق جميع الشوائب. فالنار هي المطهّر الأكبر. فلا تلوّث في النار.
لقد أخذت نفسي بالمغامرة والحدس والسؤال وأنا أكتب هذا الكتاب. إني أعمل وسط تزايد الإحساس بمخاطرة لا تغيب عن عقل اللبيب وروحه. فالكتاب يواجه الأسطورة.
إلى الله المشتكى؟!
والله لا يطعم جائعا، ولا يغيث ملهوفا، ولا يرحم مظلوما، ولا يشفي مريضا؟!
فهل تراه يردّعلى كسالى تبلّد حسّهم كأمثالنا؟
إن الصالحين أحقّ بالإجابة منّا. ومع ذلك فهو لا يستجيب لهم، فما قولك بالطالحين؟
هذا إذا صحّ وجوده، فكيف إذا كان عدم وجوده حقّا مبينا؟ ......
هذا ولم يتخلّص لي الحق الذي انتهيت إليه إلاّ بقراءة القرآن، لا قراءة تعبّد تزيد الأعمى عمًى، بل قراءة تحليل وتركيب وموازنة ومقارنة ومعارضة وشكّ ونقد وتقويم وتتبّع كلّ آية فيه، واستنطاقها على حدة، وربطها بغيرها من الآيات، وذلك بعد فهرستها وتبويبها وتقسيمها إلى موضوعات. وألحقت كل آية بالموضوع الخاصّ بها.
فمرجعي الوحيد هو القرآن ولم أرجع إلى شيء غيره. ولم يَفُتْني بطبيعة الحال الرجوع إلى اقوال المفسّرين وآرائهم في هذه الآية أو تلك، مستأنسا بها رافضا لأكثرها. ولم أعلن أي نتيجة من النتائج التي تمكّنت من الوصول إليها إلا بعد توثيقها بالآية المطلوبة مشفوعة – ما أمكن – بآيات أخرى مشابهة لها.
¥