لا همّ لي في هذا الكتاب إلا اقتحام عرين النصّ. يجب أن ننزع عن النصّ أولا قشرة القداسة التي تحيط به. وبغير ذلك لا يسلس لنا قياد النصّ. إن تعرية النصّ والتشكيك في قداسته، وتطبيق المنهج العقليّ عليه، تفتح لنا آفاقا لا يبلغها أولئك الذين على أبصارهم غشاوة قدسية النصّ. هؤلاء هم عبدة أصنام. ولا فرق بين عبدة أصنام وعبدة النصّ.
يجب إعادة النظر في التفرقة بين المقدّس وغير المقدّس (ما غير المقدّس ليس بالضرورة دنساً)، أو ادّعاءالخصومة بينهما. فلا مقدّس إلا الإنسان والعقل الذي يميّز الإنسان. لذلك يجب ألا تشغلنا قداسة النصّ عن حيوية التجربة العقليّة. فالتجربة العقلية نشاط وقدرة وقلق، وهيمنة الدّين على الفكر والثقافة مصادرة للعقل وعزل له عن االواقع، وعن الحياة والإنسان. وبحكم هذه المصادرة، وبفعل المعرفة التي تتولّد منها، تبدو الثقافة العربية كأن لا شان لها إلا بقدر انشغال هذه الحياة بهموم الآخرة وما فيها من نعيم وجحيم وحور عينٍ وفاكهة ممّا يشتهون.
لقد آن لنا أن نتخطّى الأسوار التي تضربها علينا هذه المصادرة. ولا سبيل إلى ذلك إلا بانقلاب معرفي في كلّ ما يتعلّق بالأصول - نصوصا وقراءات -، انقلابا ينطلق من النظر إليها ومعاملتها على أنها مادّة خاضعة للعقل وأفق مفتوح أمام العقل، قابل للنظر وإعادة النظر. وإلا بقي النصّ مهيمنا ثابتا لا مبدّل لكلماته. ومن ثمّ بقيت المعرفة ثابتة محدودة مغلقة.
ثمّ ان الهويّة ليست تطابقا مع جوهر ماض تكوّن مرّة واحدة وإلى الأبد، وإنما هي عملية تاريخية وابتكار دائم. فالانسان يصنع هويّته ويبدعها. وهو يصنع فكره ونظام حياته. الهويّة حياة والنصّ موت. فكيف ترتهن الحياة بالموت؟ الهويّة تولد في المستقبل، والنصّ عود إلى الماضي. فكيف يعود المستقبل أدراجه إلى الماضي؟ الهويّة وعد في طريقه إلى الإنجاز. فكيف يتّفق الإنجاز واللآّإنجاز؟ النصّ إلغاء لديناميّة الإنسان، ولديناميّة المعرفة، ولديناميّة التطوّر والتاريخ. فاختر لنفسك ما يحلو. لا يستوي الحرّ والظلّ؟
علينا ألا نُحبَس في غرفة مظلمة ضيّقة والعالم من حولنا يترامى ويمتدّ على غير نهاية. يجب أن نخرج إلى النور ونعمل على النور. وأن نكفّ عن خدمة منطق النصّ لخدمة منطق النور. لنتعاطَ مع الواقع الحيّ ونشارك في الأحداث وفي انبثاق النور. ليت شعري! إلى متى سنظلّ نستمرئ الظلمة ونرسف في أغلال الظلمة ونرفض النور؟!
لقد غاب عنّا أنّ النصوص لها أعمار تعيش إلى اجل مُسمّى. فإذا جاء أجلُها فمن الواجب أن تفسح الطريق لغيرها، لا أن تلوي عنق الزمان والمكان لتمدّ في أجَلِها وترفض النداءات التي تطالب برحيلها يجب أن نتعلّم كيف نمارس عملية التحرر من ربقة النصوص بعد عصور وعصور من تحكّم النصوص والحنين المستمرّ إلى ماضٍ زاهٍ عامرٍ بالنصوص وعبادة النصوص.
إنّ النصوص التي لا نجد لها اليوم معنى كانت بالأمس تشبع حاجات أسلافنا وتُغني حياتهم. لقد وجدوا فيها نشوة روحيّة لا حدود لها. من الصعب علينا فهمها في هذه الأيام، وانخرطوا في سجال وسط تدافعٍ وتزاحم لاكتشاف دررالمعاني التي ينطوي عليها كتاب الله. لقد كان ذلك مقصورا على زمن مضى وانقضى.
فقد انكبّ أجدادنا على دراسة القرآن دراسةً مليئة بالإفتعال والصنعة والتكلّف، وحمّلوه من الفصاحة والبلاغة والإعجاز ما لا يحتمل، وانتزعوا منه من المعاني والمقاصد والأغراض ما لم يخطر على بال صاحبه، ونشروا حوله مواكب من الصور والألوان والأطياف والمشاهد، لم يحظ بها كتاب غيره حتى اليوم.
هذا ما يفعل الإيمان بعَبَدة النصوص والأوهام. لقد هوت الأنصاب والأزلام والأوثان، وفي أعقابها النصوص، وتغيّرت النفوس لتغيّرِ الزمان. وعصر الخلافة ولّى. فأدبر زمان واقبل زمان.
لقد أعطى القرآن الشخصية العربية الإسلامية طابعا أسطوريّا مميّزا لا نظير له. جعلها تعيش خارج التاريخ. والأحداث من حولها تضجّ بالتاريخ. فمتى تخرج من النفق المظلم لتدخل باحة التاريخ؟ إن خطاب الماضي لا يصنع تاريخا، إنما يصنع التاريخَ الحضورُ في التاريخ.
¥