يقر بديع الزمان بأنه اشتغل بالفلسفة مدة وتعلق بها تعلقه بالعلوم العقلية كما اشتغل وتعلق بها غيره من المفكرين، (4) بحيث يصح أن نَعُد هذه الفترة من حياته الفكرية فترة تفلسف صريح جعله يتخذ من العلاقة بين الفلسفة والحكمة نفس الموقف الذي اتخذه فلاسفة الإسلام من أمثال الكندي والفارابي وابن سينا وابن رشد، (5) وهو، على التعيين، موقف الجمع أو الوصل بينهما، بمعنى أن الفلسفة لا تخالف الحكمة، وإنما توافقها.
والواقع أننا إذا دققنا النظر في هذا الجمع -أو الوصل- وجدنا أنه يتخذ صورتين اثنتَين: إحداهما، الصورة التي اشتهر بها الكندي والفارابي وابن سينا؛ والثانية، الصورة التي اشتهر بها أبو سليمان السجستاني وابن رشد؛ فلنبسط الكلام في هاتين الصورتين للوصل بين الفلسفة والحكمة.
1.1. جمع التداخل بين الفلسفة والحكمة: إن الصورة الأولى التي اتخذها الجمع بين الفلسفة والحكمة هو أنه عبارة عن تداخل، بمعنى أن الفلسفة والحكمة تدخل إحداهما في الأخرى، فما تقرره الحكمة تثبته الفلسفة وما تدّعيه الفلسفة تؤيده الحكمة، بحيث تنزلان منزلة الأختين الشقيقتين؛ ويقوم هذا الوصل التداخلي، حسب ما جاء في نصوص بديع الزمان، على مبدأين أساسيين:
أحدهما، مبدأ تأسيس النقل على العقل: ومقتضاه أن النقل يُؤوَّل على مقتضى العقل متى ظهر تعارضه معه.
والثاني، مبدأ التوسل بالعقل في النقل: ومقتضاه أن المفاهيم العقلية تكون وسائط في بيان الحقائق النقلية.
وقد عَمل بديع الزمان بهذين المبدأين في فترة تفلسفه، إذ يخبرنا أنه كان يقيم الحقائق الإسلامية على أدلة عقلية كما هي طريقة الفلاسفة، داخلا في مناظرة خصومه وخصوم الإسلام. (6) كما نجد أنه كان يلجأ في توضيح المعاني الإسلامية إلى المفاهيم الفلسفية كشأنه مع معنى «العدل»، إذ لجأ في بيانه إلى نظرية «أفلاطون» في الفضائل الأربع -أي العفة والشجاعة والحكمة والعدل- وأيضا إلى نظرية «أرسطو» في مفهوم «الفضيلة» باعتبارها وسطا بين الإفراط والتفريط. (7)
2.1. جمع التصاحب بين الفلسفة والحكمة: أما الصورة الثانية التي اتخذها الجمع بين الفلسفة والحكمة، فهي أنه عبارة عن تصاحب؛ بمعنى أن الفلسفة والحكمة، ولو أنهما تعبِّران عن حقيقة واحدة، تبقيان مستقلتين إحداهما عن الأخرى، إذ تكون لكل واحدة منهما لغتها وجمهورها ومنهجيتها ومقصديتها الخاصة، فتكون العلاقة بينهما علاقة تساوق وترافق أشبه بترافق الصديقتَين؛ والأصل في القول بهذا الوصل التصاحبي هو الاعتقاد بأن الفلسفة تأخذ بمبادئ ثلاثة لا تأخذ بها الحكمة:
أحدها، مبدأ الاندهاش: ومقتضاه أن فعل التفلسف يتولد من الشعور بالدهشة -أو العجب- إزاء الآثار في النفس أو إزاء الأشياء في الأفق.
والثاني، مبدأ الاستشكال: ومقتضاه أن الفيلسوف لا يفتأ يضع الأسئلة تلو الأخرى، باحثا عن الأجوبة عنها.
والثالث، مبدأ الاستدلال: ومقتضاه أن الفلسفة تستند في إثبات حقائقها إلى الأدلة العقلية التي قد تبلغ أعلى مراتب اليقين.
وقد عَمل بديع الزمان بهذه المبادئ الثلاثة، هي الأخرى، في فترة تفلسفه، إذ كان يتمتع بقدرة اندهاشية قَلَّ نظيرها، فلا يرى شيئا في نفسه أو في أفقه إلا ويرى فيه سرا عجيبا ينبغي استكناه أمره؛ وأيضا كانت الأسئلة المصيرية تملك عليه مشاعره وتستحوذ على مداركه، فيشغله طلب الأجوبة عنها طويلا، معاودا النظر فيها، إن تصحيحا أو تعميقا. ولم يكن بديع الزمان يجد من طريق أسلم في استكناه الأمور التي يندهش لها ولا في الجواب عن الأسئلة التي تهجم عليه إلا طريق البرهان العقلي، لكي تطمئن نفسه التي بين جنبيه ويقتنع خصمه الذي بين يديه.
وعلى الجملة، كان بديع الزمان الفيلسوف كغيره من فلاسفة الإسلام يسلّم بمبدإ الجمع بين الفلسفة والحكمة، سواء اتخذ هذا الجمع شكل التداخل كما عند الفارابي وابن سينا أو شكل التصاحب كما عند ابن رشد.
2. بديع الزمان الحكيم والفصل بين الفلسفة والحكمة
¥