ها هنا يجب التنبيه على حقيقة أساسية، وهي أن هذا الجمع بين الفلسفة والحكمة، إذا كان النظر العقلي المجرد يجوِّزه ولا يحيله، فإن الواقع الحي يكذبه ولا يؤيده؛ ذلك أنه حدثَ على مرأى ومسمع من بديع الزمان انقلاب سياسي اجتماعي تصدَّع له التاريخ واهتز له المجتمع وصعق له الإنسان؛ ولم يكن هذا الانقلاب السياسي الاجتماعي إلا أثرا من الآثار التي انعكس بها على المجتمعات الغربية الانقلاب الفكري الذي قامت به الفلسفة الحديثة ضد الحكمة الدينية والذي يمثله خير تمثيل فكر الفيلسوف الألماني «كانط».
وكان لا بد لهذا التعارض الغريب بين تجويز العقل للجمع بين الفلسفة والحكمة وتكذيب الواقع المعيش له من أن يشغل بال بديع الزمان طويلا ويدعوه إلى مراجعة موقفه الفلسفي وبالتالي إلى تجديدِ النظر فيما تقرر بين فلاسفة الإسلام من أن الفلسفة والحكمة متصلتان اتصالَ تداخلٍ كالشقيقتين أو اتصالَ تصاحبٍ كالصديقتين.
من هنا يبدأ العهد الجديد لبديع الزمان، إذ يتجرد من لباسه الفلسفي القديم ليلبس لباسا جديدا، ألا وهو لباس الحكمة، أو قل ها هنا نشهد موت بديع الزمان الفيلسوف وولادة بديع الزمان الحكيم،
(8) ونسوق في هذا المقام نصا بهذا الشأن لا غبار عليه، وهو التالي:
«راجعت أول ما راجعت تلك العلوم التي اكتسبتها سابقا أبحث فيها السلوة والرجاء؛ ولكن كنت -ويا للأسف! - إلى ذلك الوقت مغترفا من العلوم الإسلامية مع العلوم الفلسفية ظنا مني -ظنا خطأ جدا- أن تلك العلوم الفلسفية هي مصدر الرقي والتكامل ومحور الثقافة وتنور القلب، بينما تلك المسائل الفلسفية هي التي لوثت روحي كثيرا، بل أصبحت عائقة أمام سموي المعنوي».
«نعم، بينما كنت في هذه الحالة، إذا بحكمة القرآن المقدسة تسعفني، رحمة من العلي القدير، وفضلا وكرما من عنده سبحانه، فغسلت أدران تلك المسائل الفلسفية، وطهرت روحي منها -كما هو مبين في كثير من الرسائل-
إذ كان الظلام الروحي المنبثق من العلوم الفلسفية يغرق روحي ويطمسها في الكائنات، فأينما كنت أتوجه بنظري في تلك المسائل فلا أرى نورا ولا أجد قبسا، ولم أتمكن من التنفس والانشراح
حتى جاء نور التوحيد الساطع النابع من القرآن الكريم الذي يلقن «لا إله إلا الله»، فمزق الظلام وبدده، فانشرح صدري وتنفّس بكل راحة واطمئنان». (9)
ويتخذ هذا التحول الجذري في حياة بديع الزمان مظهرين اثنين:
أحدهما مظهر نقدي والثاني مظهر بنائي.
1.2. انقلاب بديع الزمان ونقد الوصل بين الفلسفة والحكمة؛
يتجلى المظهر النقدي لهذا التحول في كون بديع الزمان اشتغل بنقد الجمع بين الفلسفة والحكمة في صورتيه الاثنتين: التداخل والتصاحب نقدا مثلَّثا: نقدا منطقيا ونقدا أخلاقيا ونقدا إشاريا؛ ولا عجب في ذلك، فالحكيم أصلا لا يكتفي بالنقد المنطقي للآراء كما يكتفي به الفيلسوف، بل يتعداه إلى النقد الأخلاقي لها، لأنه لا ينظر إليها مجردة، وإنما مقترنة بالعمل، فيقوّمها بحسب أثرها العملي، ثم يرتقي بها درجة، فينظر إليها من جهة قيمتها الجمالية، فيأتي بنقده الإشاري لها.
فلنبدأ بتوضيح كيف مارس بديع الزمان هذا النقد المثلَّث على الضرب الأول من الوصل بين الفلسفة والحكمة، وهو الضرب التداخلي الذي ينبني، كما تقدم، على مبدأين اثنين هما: «مبدأ تأسيس النقل على العقل» و «مبدأ التوسل بالعقل في النقل».
1.1.2. نقد التداخل بين الفلسفة والحكمة
أ. النقد المنطقي:
يرى بديع الزمان أن مبدأ تأسيس النقل على العقل الذي ينبني عليه جمع التداخل هو عبارة عن ترجيح بغير مرجِّح، ذلك لأن العقل ليس أقل من النقل حاجة إلى التأسيس، ولا يمكن أن يكون هذا التأسيس بطريق العقل نفسه متى كان هذا العقل هو «العقل الدائر بين الناس» (10) ولم يكن عقلا من نوع جديد لا عهد للفلسفة به؛ (11) كما أن هذا المبدأ يحمل على تأويل النقل بما يفضي إلى تحريفه، لأن العقل المعلوم ليس له من السعة والتجرد ولا من القدرة على الانطلاق ما يستوجبه فهم هذا النقل. (12)
¥