تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

ويرى بديع الزمان كذلك أن مبدأ التوسل بمفاهيم العقل في بيان معاني النقل الذي يقوم عليه هذا الضرب الأول من الوصل لا يرفع من شأن النقل، وإنما ينزل به، لأن فيه إيهاما بأن الأسس العقلية أعمق وأرسخ من الأسس النقلية؛ كما أنه لا يفيد في الظهور على الخصم، لأنه يبقى منحصرا في دفع الاعتراضات بالطريق العقلي المجرد الذي يأخذ به هذا الخصم، ولا يرقى إلى عرض حقائق النقل بالطريق الذي يمتزج فيه العقل بالقلب والذي تختص به هذه الحقائق، (13) هذا إن لم يؤد إلى تزييفها تزييفا كاملا. (14)

ب. النقد الأخلاقي:

يؤكد بديع الزمان أن تعاطي المتفلسف لتأسيس النقل على العقل يصيبه بأمراض قلبية، في مقدمتها مرض الغرور، ذلك لأنه يجعل من عقله الناقص والمحدود معيارا للوحي الذي هو كلام لا حد لكماله؛ (15) كما يؤكد أن التوسل بالمفاهيم الفلسفية -ولا سيما الطبيعية و «الميتافيزيقية» - في مباحث القرآن يفضي بصاحبه إلى تقديس الطبيعة وترك تقديس خالقها.

ج. النقد الإشاري:

إن مَثَل الفيلسوف القائل بالتداخل بين الفلسفة والحكمة عند بديع الزمان كمَثَل من يسلك طريقا في جوف الأرض -أي نفَقا- أو من يأوي إلى كهف، (16) فيكون عبارة عن شبح لا يُرى شخصه وإن عُرفت عينه وشُهِد أثره، وينتهي بالهلاك في هذا النفق اختناقا ولَمَّا يُكمِّل سيره، وتكون منزلته في القرآن -الذي هو معدن الحكمة- منزلة الضال. (17)

من ثمَّ، يصبح الفيلسوفان اللذان ذكرهما بديع الزمان بالاسم مرات عديدة، وهما الفارابي وابن سينا معدودَين عنده في زمرة الضالين، (18) إذ كانا يقولان بالتداخل بين الفلسفة والحكمة، وهو قول أشبه بسفسطة النصارى؛ وقد ذهب ابن سينا في العمل بهذا القول إلى أبعد مما ذهب إليه الفارابي؛ (19) ولما كان بديع الزمان قد أُعجب بدهائهما واعتقد الصحة في رأيهما، فقد كاد هو نفسه أن يَحار كما ضلَّا لولا أن الله تجلى عليه باسمه «الحكيم»، فأضحى أهدى سبيلا وأقوم قيلا.

وعلى هذا، فإن العمل بمبدإ تداخل الفلسفة والحكمة يُنتِج إنسانا رقيق الإيمان ضعيف الحجة متعلقا بالظاهر مغترا بنفسه وتائها عن طريقه.

ولننعطف الآن على الضرب الثاني من الوصل بين الفلسفة والحكمة، وهو الضرب التصاحبي، فنبين كيف مارس عليه بديع الزمان هذا النقد المثلَّث، مع العلم بأن هذا الضرب يقوم على مبادئ ثلاثة هي: «مبدأ الاندهاش» و «مبدأ الاستشكال» و «مبدأ الاستدلال».


الهوامش:

(1) الشاهد على أن بديع الزمان يميل إلى مثل هذا التخصيص تقييده في أكثر من موضع اسم «الفلسفة» بوصف «البشرية» كما في قوله: «إن سعيدا القديم والمفكرين قد ارتضوا بقسم من دساتير الفلسفة البشرية»، المكتوبات، ص 569؛ وأيضا حِرصُه على الإشارة إلى أن إطلاق لفظ «الحكمة» على الفلسفة هو من عمل غيره - أي الفلاسفة - كما جاء ذلك في قوله: «أما ما يسمونه بعلم الحكمة، وهي الفلسفة، فقد غرقت في تزيينات حروف الموجودات وظلت مبهوتة أمام علاقات بعضها ببعض، حتى ضلت عن الحقيقة»، الكلمات، ص 143؛ مما يشعر بأن ورود هذا الإطلاق في نصوصه هو من باب التساهل في الاستعمال ومجاراة الغير، لا من باب صحة هذا الاستعمال أو الاقتناع به. (نشير هنا إلى أن تسويد الكلمات في النصوص المنقولة هو من فعلنا).

(2) «نيقولاوس كوبيرنيك» فلكي بولوني (1473 - 1543)، اشتهر ببرهنته على دوران الأرض على نفسها وحول الشمس، مبطلا بذلك الرأي القديم الذي يجعل الأرض ثابتة والشمس دائبة الدوران حولها.

(3) «إيمانوئيل كانط» فيلسوف ألماني (1724 - 1804)، أثبت دور الذات الفاعل في تشكيل المعرفة الإنسانية، مفندا بذلك النظرية القديمة التي تجعل للموضوع الدور الفاعل في تشكيل هذه المعرفة.

(4) يقول: «كان سعيد القديم -قبل حوالي خمسين سنة- لزيادة اشتغاله بالعلوم العقلية والفلسفية يتحرى مسلكا ومدخلا للوصول إلى حقيقة الحقائق، داخلا في عداد الجامعين بين الطريقة والحقيقة»، المثنوي العربي النوري، ص29؛ انظر أيضا المكتوبات، ص 569 - 570.

(5) الملاحظ أن بديع الزمان لا يذكر الكندي كما يبدو أنه لم يذكر فيلسوف المغرب ابن رشد إلا قليلا جدّا، قد لا يتعدى ذلك المرتين: المكتوبات، ص 249؛ وأيضا الشعاعات، ص 663.

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير