تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

ولا أستطيع الآن أن أتذكر السبب الذى جعلنى وزميلى نتساءل ونحن مارّان أمام بوابة الأورمان: ترى ماذا سيكون مصير برتراند رَسِلْ يوم القيامة؟ وكان رد زميلى هو أنه مخطئ، وسوف يحاسبه الله على عدم إيمانه بالإسلام. لكن كان رأيى أن الإنسان قد يطلب الحق فيخطئه، كما لا ينبغى أن ننسى أن رَسِلْ ابن بيئة تختلف عن بيئتنا تشرّب منها موقفها من الإسلام، ومن ثم لا يصح أن نسوى بيننا وبينه من حيث الفرص المتاحة للتعرف إلى الإسلام على الوجه الصحيح. لكن زميلى أصر على كلامه قائلا إن أى إنسان لا يمكن أن يضل عن حقيقة الإسلام متى كان مخلصا فى بحثه، بل لا بد أن يصل حتما إلى وجه الصواب فيه. ومع هذا فقد بقيت أنا على رأيى قائلا إنه ليس مستحيلا أن يطلب الشخص الوصول إلى الحق لكنه، لسب أو لآخر، لا يستطيع بلوغه، وهو ما أرى الآن بكل وضوح أنه يتمشى مع حديث الرسول الكريم عن أجر المجتهد فى حالة خطئه وفى حالة صوابه، إذ إن هذا الحديث العبقرى العجيب إنما يعنى أن المجتهد يمكن جدا، رغم إخلاصه وشدة تقصيه، أن يخطئ الهدف فلا يصل إلى الصواب الذى وضعه نصب عينيه، وإن كنت رغم ذلك أرى أنه يجب علينا أن نترك لله سبحانه وتعالى وحده الحكم على نية الباحث عن الحق ومدى إخلاصه أو عدم إخلاصه وإلى أى حد يمكن معذرته بتأثير البيئة عليه أَوْ لا ... إلخ. على أن ليس معنى ذلك ترك كل إنسان يقول ما يشاء دون الرد أو التعقيب عليه، بحجة أن هذا هو اقتناعه. ذلك أننى أنا أيضا لى اقتناعاتى، ومن حقى بل من واجبى أن أعلنها وأدعو إليها وأبسط الحجج التى أستند عليها فى تلك الدعوة.

وفى ذات الوقت ينبغى مراعاة طبيعة موقف كل شخص لا يؤمن بالإسلام من الإسلام، وهل يا ترى يقف منه موقف العداء والحقد؟ أم هل يقف منه موقف المسالمة والاحترام؟ ففيلسوفٌ مثلُ رَسِلْ لا يصح أن يعامَل كأى سفيه حقير ممن يُقِلّون أدبهم على المسلمين وعلى دينهم ورسولهم وقرآنهم من المستشرقين والمبشرين وأولئك الأوباش طوال اللسان قصار العقل من المهجريين المصريين. فالرجل لم يمنعه إلحاده من أن يذكر الإسلام بخير ويقول عنه كلاما طيبا كما سوف نرى. صحيح أنه غير كاف، لكن ليس من العدل ولا من المروءة أن نسوى بين صاحبه وبين أولئك السفهاء الشتامين.

وصحيح أيضا أننى لم أكن وقتذاك أعرف أن لرَسِلْ كلاما طيبا فى حق الإسلام، وإن كنت أعلم فى ذات الوقت أن له كتابا عن "تاريخ الفلسفة الغربية" تعرَّض فيه للإسلام ونبيه، إلا أننى كنت أجهل ما قاله فى ذلك الموضوع لأن الكتاب الذى كان فى يد زملائى كان بالإنجليزية، على حين كانت لغتى الأجنبية الأولى هى الفرنسية، ولم أكن قد تعلمت لغة جون بول بعد على النحو الذى يؤهلنى للقراءة بها بسهولة ويسر، كما لم أكن على علم بأن الكتاب قد تُرْجِم إلى العربية: ترجمه أحمد أمين وزكى نجيب محمود. بل لقد حاولت مؤخرا أن أعثر على تلك الترجمة فلم يتيسر لى إلا جزء واحد منها فقط، وهو عن الفلسفة الغربية الحديثة مما لا علاقة له بالإسلام ونبيه. كذلك لم أكن أعرف إلا مؤخرا جدا أن خاله الأكبر هنرى كان مسلما! جاء ذكر ذلك فى الصفحات الأولى من "سيرته الذاتية"، ووصفه كالعادة بأنه "محمدى"، كما جرده من كل مزايا الأسرة ورماه بأنه أكثر من عرفهم إثارة للملل، وإن لم يُعْفِ الأخوال الآخرين وأمهم من الانتقاد هم أيضا. وهذه هى عبارته نصا، والإشارة فيها إلى جدته لأمه: " Her eldest son was a Mohammedan… Henry, the Mohammedan, was devoid of all the family merits, and was, I think, the greatest bore I have ever known"، وإن كان مترجمو الكتاب إلى العربية قد استخدموا كلمة "مسلم" بدلا من "محمدى".

وكنا أنا وزميلى فى ذلك الوقت نقرأ، ضمن ما نقرأ، بعض كتب الشيخ شلتوت التى كنا نستمتع بمطالعتها لما يتمتع به الشيخ الكريم من بساطة فى الأسلوب وصفاء فى الرؤية وعمق فى التحليل وسماحة فى الفهم والحكم. ولكنى لست أدرى هنا أيضا أكنت قرأت له تفسير العشرة الأجزاء الأولى من القرآن الكريم أم لا. لكنى على أية حال قد سُرِرْتُ لمّا قرأتُ (متى بالضبط؟) تفسيره رحمه الله لقوله تعالى فى الآية 115 من سورة"النساء": "وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير