تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

صرت من بعد كلما رأيت شرف الحمراء أو مآذن غرناطة تعروني هزة عنيفة، وأحس بالشوق والحزن، والبغض والحب، يغمر فؤادي. وكثيرا ما ذهلت عن نفسي ساعات طويلة، فإذا تنبهت أطوف بالحمراء وأخاطبها وأعاتبها وأقول لها: أيتها الحمراء، أيتها الحبيبة الهاجرة، أنسيت بُناتَك وأصحابك الذي غذوك بأرواحهم ومهجهم، وسقوك دماءهم ودموعهم، فتجاهلت عهدهم وأنكرت ودهم؟ أنسيت الملوك الصِّيد الذين كانوا يجولون في أبهائك، ويتكئون على أساطينك، ويفيضون عليك ما شئت من المجد والجلال، والأبهة والجمال، أولئك الأعزة الكرام الذين إن قالوا أصغت الدنيا، وإن أمروا لبى الدهر؟ أألفت النواقيس بعد الأذان؟ أرضيت بعد الأئمة بالرهبان؟

ثم أخاف أن يسمعني بعض جواسيس الديوان، فأسرع الكرّة إلى الدرة لأحفظ درس العربية، الذي كان يلقيه عليّ أبي، وكأني أراه الآن يأمرني أن أكتب له الحرف الأعجمي، فيكتب لي حذاءه الحرف العربي، ويقول لي: هذه حروفنا. ويعلمني النطق بها ورسمها، ثم يلقي عليّ درس الدين، ويعلمني الوضوء والصلاة لأقوم وراءه نصلي خفية في هذه الغرفة الرهيبة. وكان الخوف من أن أزلّ فأفشي السر لا يفارقه أبدا، وكان يمنحنني فيدس أمي إليّ فتسألني: ماذا يعلمك أبوك؟

فأقول: لا شيء

فتقول: إن عندك نبأ مما يعلمك، فلا تكتمه عني.

فأقول: إنه لا يعلمني شيئا.

حتى أتقنت العربية، وفهمت القرآن، وعرفت قواعد الدين، فعرّفني بأخ له في الله، نجتمع نحن الثلاثة على عبادتنا وقرآننا.

واشتدت بعد ذلك قسوة ديوان التفتيش، وزاد في تنكيله بالبقية الباقية من العرب، فلم يكن يمضي يوم لا نرى فيه عشرين أو ثلاثين مصلوبا، أو محرقا بالنار حيا، ولا يمضي يوم لا نسمع فيه بالمئات يعذبون أشد العذاب وأفظعه، فتقلع أظافرهم، وهم يرون ذلك بأعينهم، ويُسْقَوْن الماء حتى تنقطع أنفاسهم، وتكوى أرجهلم وجنوبهم بالنار، وتقطع أصابعهم وتشوى وتوضع في أفواههم، ويجلدون حتى يتناثر لحمهم. واستمر ذلك مدة طويلة، فقال لي أبي ذات يوم: إني أحس يا بني كأن أجلي قد دنا، وإني لأهوى الشهادة على أيدي هؤلاء، لعل الله يرزقني الجنة فأفوز بها فوزا عظيما، ولم يبق لي مأرب في الدنيا بعد أن أخرجتك من ظلمة الكفر، وحملتك الأمانة الكبرى، التي كدت أهوي تحت أثقالها. فإذا أصابني أمر فأطع عمك هذا ولا تخالفه في شيء. ومرّت على ذلك أيام، وكانت ليلة سوداء من ليالي السِّرار، وإذا بعمي هذا يدعوني ويأمرني أن أذهب معه، فقد يسر الله لنا سبيل الفرار إلى عدوة المغرب بلد المسلمين فأقول له: وأبي وأمي؟ فيعنف عليّ ويشدُّني من يدي ويقول لي: ألم يأمرك أبوك بطاعتي؟

فأمضي معه صاغرا كارها، حتى إذا ابتعدنا عن المدينة وشملنا الظلام، قال لي: اصبر يا بني، فقد كتب الله لوالديك المؤمنين السعادة على يد ديوان التفتيش.

ويخلص الغلام إلى بر المغرب ويكون منه العالم المصنف سيدي محمد بن عبد الرفيع الأندلسي، وينفع الله به وبتصانيفه".

أما النص الثانى فهو الفقرات التالية فى تصوير ما أنزله نصارى أسبانيا بالمسلمين من ترويع بعدما دالت دولة الإسلام فى الأندلس وأصبح السلطان للنصارى، الذين سرعان ما تناسوا أن المسلمين كانوا قد تركوا مواطنيهم النصارى فى تلك البلاد يعيشون معهم فى أمان، ويمارسون دينهم كما يحلو لهم دون أى تدخل من جانبهم ودون أى تضييق عليهم أو تعرض لهم بعنت أو أذى: "سقطت غرناطة آخر قلاع المسلمين في إسبانيا سنة 897 هـ- 1492م، وكان ذلك نذيرًا بسقوط صرح الأمة الأندلسية الديني والاجتماعي وتبدد تراثها الفكري والأدبي. وكانت مأساة المسلمين هناك من أفظع مآسي التاريخ حيث شهدت تلك الفترة أعمالا بربرية وحشية ارتكبتها محاكم التحقيق (التفتيش) لتطهير أسبانيا من آثار الإسلام والمسلمين، وإبادة تراثهم الذي ازدهر في هذه البلاد زهاء ثمانية قرون من الزمان. وهاجر كثير من مسلمي الأندلس إلى الشمال الإفريقي بعد سقوط مملكتهم فرارًا بدينهم وحريتهم من اضطهاد النصارى الأسبان لهم، وعادت أسبانيا إلى دينها القديم. أما من بقي من المسلمين فقد أجبر على التنصر أو الرحيل، وأفضت هذه الروح النصرانية المتعصبة إلى مطاردة وظلم وترويع المسلمين العُزْل، انتهى بتنفيذ حكم الإعدام ضد أمة ودين على أرض أسبانيا.

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير