تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

فلما سمعت اسم ديوان التفتيش ارتجفتُ من مَفْرِق رأسي إلى أَخْمَص قدمي. وقد كنت صغيرا حقا، ولكني أعرف ما هو ديوان التفتيش، وأرى ضحاياه كل يوم، وأنا غادٍ إلى المدرسة ورائحٌ منها ـ فمن رجال يُصْلَبون أو يُحْرَقون، ومن نساء يعلَّقْن من شعورهن حتى يمتن أو تُبْقَر بطونهن، فسكتُّ ولم أجب.

فقال لي أبي: مالك لا تجيب؟ أتستطيع أن تكتم ما سأقوله لك؟

قلت: نعم

قال: تكتمه حتى عن أمك وأقرب الناس إليك؟

قلت: نعم

قال: اقترب مني. أرهفْ سمعك جيدا، فإني لا أقدر أن أرفع صوتي. أخشى أن تكون للحيطان آذان، فَتَشِيَ بي إلى ديوان التفتيش، فيحرقني حيا.

فاقتربت منه وقلت له: إني مُصْغٍ يا أبت.

فأشار إلى الكتاب الذي كان على الرف وقال: أتعرف هذا الكتاب يا بني؟

قلت: لا.

قال: هذا كتاب الله.

قلت: الكتاب المقدس الذي جاء به يسوع بن الله؟

فاضطرب وقال: كلا، هذا هو القرآن الذي أنزله الله، الواحد الأحد، الفرد الصمد، الذي لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفوا أحد، على أفضل مخلوقاته، وسيد أنبيائه، سيدنا محمد بن عبد الله النبي العربي صلى الله عليه وسلم.

ففتحت عيني من الدهشة، ولم أكد أفهم شيئا.

قال: هذا كتاب الإسلام، الإسلام الذي بعث الله به محمدا إلى الناس كافة، فظهر هناك وراء البحار والبوادي في الصحراء البعيدة القاحلة، في مكة في قوم بداة مختلفين مشركين جاهلين، فهداهم به إلى التوحيد، وأعطاهم به الاتحاد والقوة والعلم والحضارة، فخرجوا يفتحون به المشرق والمغرب، حتى وصلوا إلى هذه الجزيرة، إلى إسبانيا، فعدلوا بين الناس، وأحسنوا إليهم، وأمنوهم على أرواحهم وأموالهم، ولبثوا فيها ثمانمائة سنة، ثمانمائة سنة جعلوها فيها أرقى وأجمل بلاد الدنيا. نعم يا بني نحن العرب المسلمين.

فلم أملك لساني من الدهشة والعجب والخوف، وصحت به: ماذا؟ نحن؟ العرب المسلمين؟

قال: نعم يا بني. هذا هو السر الذي سأفضي به إليك. نعم نحن. نحن أصحاب هذه البلاد،. نحن بنينا هذه القصور التي كانت لنا فصارت لعدونا. نحن رفعنا هذه المآذن التي كان يرن فيها صوت المؤذن، فصار يقرع فيها الناقوس. نحن أنشأنا هذه المساجد التي كان يقوم فيها المسلمون صفا بين يدي الله، وأمامهم الأئمة يتلون في المحاريب كلام الله، فصارت كنائس يقوم فيها القسوس والرهبان يرتلون فيها الإنجيل.

نعم يا بني، نحن العرب المسلمين، لنا في كل بقعة من بقاع إسبانيا أثر، وتحت كل شبر منها رفات جد من أجدادنا، أو شهيد من شهدائنا. نعم، نحن بنينا هذه المدن. نحن أنشأنا هذه الجسور. نحن مهدنا هذه الطرق. نحن شققنا هذه الترع. نحن زرعنا هذه الأشجار.

ولكن منذ أربعين سنة، أسامع أنت؟ منذ أربعين سنة خُدِع الملك البائس أبو عبد الله الصغير، آخر ملوكنا في هذه الديار، بوعود الإسبان وعهودهم، فسلمهم مفاتيح غرناطة، وأباحهم حمى أمته ومدافن أجداده، وأخذ طريقه إلى بر المغرب ليموت هناك وحيدا فريدا شريدا طريدا. وكانوا قد تعهدوا لنا بالحرية والعدل والاستقلال، فلما ملكوا خانوا عهودهم كلها، فأنشأوا ديوان التفتيش، فأُدْخِلْنا في النصرانية قسرا، وأُجْبِرْنا على ترك لغتنا إجبارا، وأخذوا منا أولادنا لينشئوهم على النصرانية. فذلك سر ما ترى من استخفائنا بالعبادة، وحزننا على ما نرى من أمتهان ديننا، وتكفير أولادنا. أربعون سنة يا بني، ونحن صابرون على هذا العذاب الذي لا تحتمله جلاميد الصخر، ننتظر فرج الله، لا نيأس لأن اليأس محرم في ديننا، دين القوة والصبر والجهاد. هذا هو السر يا بني فاكتمه، واعلم أن حياة أبيك معلقة بشفتيك، ولست والله أخشى الموت أو أكره لقاء الله. ولكني أحب أن أبقى حيا حتى أعلمك لغتك ودينك وأنقذك من ظلام الكفر إلى نور الإيمان، فقم الآن إلى فراشك يا بني.

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير