تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

وكان قدر هؤلاء المسلمين أن يعيشوا في تلك الأيام الرهيبة التي ساد فيها إرهاب محاكم التحقيق. وكانت لوائح الممنوعات ترد تباعًا، وحوت أوامر غريبة منها: حظر الختان، وحظر الوقوف تجاه القبلة، وحظر الاستحمام والاغتسال، وحظر ارتداء الملابس العربية. ولما وجدت محكمة تفتيش غرناطة بعض المخالفات لهذه اللوائح عمدت إلى إثبات تهديدها بالفعل، وأحرقت اثنين من المخالفين في شوال 936هـ- مايو 1529م في احتفال ديني.

كان لقرارات هذا الإمبراطور أسوأ وقع لدى المسلمين، وما لبثت أن نشبت الثورة في معظم الأنحاء التي يقطنونها في سرقسطة وبلنسية وغيرهما، واعتزم المسلمون الموت في سبيل الدين والحرية. إلا أن الأسبان كانوا يملكون السلاح والعتاد فاستطاعوا أن يخمدوا هذه الثورات المحلية باستثناء بلنسية، التي كانت تضم حشدًا كبيرًا من المسلمين يبلغ زهاء 27 ألف أسرة، فإنها استعصت عليهم لوقوعها على البحر واتصالها بمسلمي المغرب. وقد أبدى مسلمو بلنسية مقاومة عنيفة لقرارات التنصير، ولجأت جموع كبيرة منهم إلى ضاحية بني وزير، فجردت الحكومة عليهم قوة كبيرة مزودة بالمدافع، وأرغمت المسلمين في النهاية على التسليم والخضوع، وأرسل إليهم الإمبراطور إعلان الأمان على أن يتنصروا، وعدلت عقوبة الرق إلى الغرامة، وافتدى الأندلسيون من الإمبراطور حق ارتداء ملابسهم القومية بمبلغ طائل.

وكانت سياسة التهدئة من شارل الخامس محاولة لتهدئة الأوضاع في جنوب الأندلس حتى يتفرغ للاضطرابات التي اندلعت في ألمانيا وهولندا بعد ظهور مارتن لوثر وأطروحاته الدينية لإصلاح الكنيسة وانتشار البروتستانتية. لذلك كان بحاجة إلى توجيه كل اهتمامه واهتمام محاكم التحقيق إلى الهراطقة في شمال أوروبا. كما أن قيام محاكم التحقيق بما يفترض أن تقوم به كان يعني إحراق جميع الأندلسيين لأن الكنيسة تدرك أن تنصرهم شكلي لا قيمة له. يضاف إلى ذلك أن معظم المزارعين الأندلسيين كانوا يعملون لحساب النبلاء أو الكنيسة، وكان من مصلحة هؤلاء الإبقاء على هؤلاء المزارعين وعدم إبادتهم.

وكان الإمبراطور شارل الخامس حينما أصدر قراره بتنصير المسلمين وَعَدَ بتحقيق المساواة بينهم وبين النصارى في الحقوق والواجبات. ولكن هذه المساواة لم تتحقق قط، وشعر هؤلاء أنهم ما زالوا موضع الريب والاضطهاد، ففرضت عليم ضرائب كثيرة لا يخضع لها النصارى. وكانت وطأة الحياة تثقل عليهم شيئًا فشيئًا حتى أصبحوا أشبه بالرقيق والعبيد. ولما شعرت السلطات بميل الموريسكيين إلى الهجرة صدر قرار في سنة 948 هـ=1514م يحرم عليهم تغيير مساكنهم، كما حرم عليهم النزوح إلى بلنسية، التي كانت دائمًا طريقهم المفضل إلى الهجرة. ثم صدر قرار بتحريم الهجرة من هذه الثغور إلا بترخيص ملكي نظير رسوم فادحة. وكان ديوان التحقيق يسهر على حركة الهجرة ويعمل على قمعها بشدة.

ولم تمنع هذه الشدة من ظهور اعتدال من الإمبراطور في بعض الأوقات. ففي سنة 950 هـ- 1543م أصدر عفوًا عن بعض المسلمين المتنصرين تحقيقًا لرغبة مطران طليطلة، وأن يسمح لهم بتزويج أبنائهم وبناتهم من النصارى الخلص، ولا تصادر المهور التي دفعوها للخزينة بسبب الذنوب التي ارتكبوها. وهكذا لبثت السياسة الأسبانية أيام الإمبراطور شارل الخامس 922هـ- 1516م حتى 963هـ- 1555م إزاء الموريسكيين تتردد بين الشدة والقسوة وبين بعض مظاهر اللين والعفو. إلا أن هؤلاء المسلمين تعرضوا للإرهاق والمطاردة والقتل، ووجدت فيهم محاكم التحقيق الكنسية مجالا مفضلا لتعصبها وإرهابها.

وكانت الأمة الأندلسية خلال هذا الاستشهاد المحزن الذي فُرِض عليها تحاول بكل وسيلة أن تستبقي دينها وتراثها، فكان الموريسيكيون بالرغم من دخولهم في النصرانية يتعلقون سرًّا بالإسلام، وكثير منهم يؤدون شعائر الإسلام خفية. وكانوا يحافظون على لغتهم العربية، إلا أن السياسة الإسبانية فطنت إلى أهمية اللغة في تدعيم الروح القومية، لذلك أصدر الإمبراطور شارل الخامس سنة 932هـ- 1526م أول قانون يحرم التخاطب بالعربية على الموريسكيين، ولكنه لم يطبق بشدة لأن هؤلاء الموريسكيين دفعوا له 100 ألف دوقة حتى يسمح لهم بالتحدث بالعربية. ثم أصدر الإمبراطور فيليب الثاني سنة 964هـ- 1566م قانونًا جديدًا يحرم التخاطب بالعربية، وطبق بمنتهى الشدة والصرامة. وفرضت

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير