تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

القشتالية كلغة للتخاطب والتعامل، ومع ذلك وجد الموريسكيون في القشتالية متنفسًا لتفكيرهم وأدبهم، فكانوا يكتبونها سرًّا بأحرف عربية، وأسفر ذلك بمضي الزمن عن خلق لغة جديدة هي "ألخميادو"، وهي تحريف إسباني لكلمة "الأعجمية". ولبثت هذه اللغة قرنين من الزمان سرًّا مطمورًا، وبذلك استطاعوا أن يحتفظوا بعقيدتهم الإسلامية. وألف بها بعض الفقهاء والعلماء كتبًا عما يجب أن يعتقد المسلم ويفعله حتى يحتفظ بإسلامه. وشرحوا آيات القرآن باللغة الألخميادية، وكذلك سيرة النبي صلى الله عليه وسلم. وكان من أشهر كتاب هذه اللغة الفقيه المسمى: فتى أبيرالو، وهو مؤلف لكتب التفسير وتلخيص السنة، ومن الشعراء محمد ربدان، الذي نظم كثيرًا من القصائد والأغنيات الدينية. وبذلك تحصن الموريسيكيون بمبدأ التقية، فصمدوا في وجه مساعي المنصرين الذين لم تنجح جهودهم التبشيرية والتعليمية والإرهابية في الوصول إلى تنصير كامل لهؤلاء الموريسيكيين، فجاء قرار الطرد بعد هذه الإخفاقات. ولم تفلح مساعي الموريسيكيين في الحصول على دعم خارجي فعال من الدولة العثمانية أو المماليك في مصر رغم حملات الإغارة والقرصنة التي قام بها العثمانيون والجزائريون والأندلسيون على السفن والشواطئ الأسبانية، ودعم الثوار الموريسيكيين.

واستمرت محاكم التحقيق في محاربة هؤلاء المسلمين طوال القرن السادس عشر الميلادي، وهو ما يدل على أن آثار الإسلام الراسخة في النفوس بقيت بالرغم من المحن الرهيبة وتعاقب السنين. ولعل من المفيد أن نذكر أن رجلا أسبانيًا يدعى "بدية" توجه إلى مكة المكرمة لأداء فريضة الحج سنة 1222هـ- 1807م، أي بعد 329 سنة من قيام محاكم التحقيق. وبعد مرور أربعة قرون على سقوط الأندلس أرسل نابليون حملته إلى أسبانيا وأصدر مرسوما سنة 1808 م بإلغاء دواوين التفتيش في المملكة الأسبانية.

ولنستمع إلى هذه القصة التي يرويها لنا أحد ضباط الجيش الفرنسي الذي دخل إلى أسبانيا بعد الثورة الفرنسية. كتب الكولونيل ليموتسكي أحد ضباط الحملة الفرنسية في إسبانيا، قال: "كنت سنة 1809 ملحقا بالجيش الفرنسي الذي يقاتل في إسبانيا، وكانت فرقتي بين فرق الجيش الذي احتل مدريد العاصمة، وكان الإمبراطور نابيلون أصدر مرسوما سنة 1808 بإلغاء دواوين التفتيش في المملكة الإسبانية. غير أن هذا الأمر أُهْمِل العمل به للحالة والاضطرابات السياسية التي سادت وقتئذ. وصمم الرهبان الجزوبت أصحاب الديوان الملغى على قتل وتعذيب كل فرنسي يقع في أيديهم انتقاما من القرار الصادر وإلقاءً للرعب في قلوب الفرنسيين حتى يضطروا إلى إخلاء البلاد فيخلوا لهم الجو. وبينما أسير في إحدى الليالي أجتاز شارعا يقل المرور فيه من شوارع مدريد إذ باثنين مسلحين قد هجما عليّ يبغيان قتلي، فدافعت عن حياتي دفاعا شديدا، ولم ينجني من القتل إلا قدوم سرية من جيشنا مكلفة بالتطواف في المدينة، وهي كوكبة من الفرسان تحمل المصابيح وتبيت الليل ساهرة على حفظ النظام. فما إن شاهدها القاتلان حتى لاذا بالهرب. وتبين من ملابسهما أنهما من جنود ديوان التفتيش. فأسرعت إلى المارشال سولت الحاكم العسكري لمدريد وقصصت عليه النبأ، وقال: لا شك بأن من يُقْتَل من جنودنا كل ليلة إنما هو من صنع أولئك الأشرار. لا بد من معاقبتهم وتنفيذ قرار الإمبراطور بحل ديوانهم. والآن خذ معك ألف جندي وأربع مدافع وهاجم دير الديوان واقبض على هؤلاء الرهبان الأبالسة".

ثم يتابع قائلا: "أصدرتُ الأمر لجنودي بالقبض على أولئك القساوسة جميعا وعلى جنودهم الحراس توطئةً لتقديمهم إلى مجلس عسكري، ثم أخذنا نبحث بين قاعات وكراسيّ هزازة وسجاجيد فارسية وصور ومكاتب كبيرة. وقد صنعت أرض هذه الغرفة من الخشب المصقول المدهون بالشمع. وكان شذى العطر يعبق أرجاء الغرف فتبدو الساحة كلها أشبه بأبهاء القصور الفخمة التي لا يسكنها إلا ملوك قصروا حياتهم على الترف واللهو. وعلمنا بعد أنَّ تلك الروائح المعطرة تنبعث من شمع يوقد أمام صور الرهبان. ويظهر أن هذا الشمع قد خلط به ماء الورد.

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير