فالمفاهيم الروحية كما يعرضها النورسي إنما يتلقاها في حال اليقظة، لا في حال المحو والسكر، كما يعبر القوم.
فاليقظة عنده أكمل من السكر، والحضور أقوى من الغياب، على عكس ما هو موجود عند غيره. ذلك أن (طريق القرآن) عنده - رحمه الله – تسلك بالعبد إلى ربه عبر نفسه الواعية، اليَقِظَةِ؛ من خلال مسلك الوجود. وذلك كمال الابتلاء وكمال التوحيد. فالعبد الذي يستوعب الوجود حوله بتعدده وتنوعه، فلا يفقد بوصلة السير إلى الله الواحد؛ هو العبد الأكمل.
فإذا بالكائنات جميعها بين يديه مجالس ذكر تسير بسيره إلى الله.
فلا ينبغي أن يفتنه شيء في ذلك كله عن ربه، بل يجب أن يجد كل شيء منعكسا عن أنوار الأسماء الحسنى. ومن هنا لم يكن طريق القرآن يضطر إلى محو الوجود كما يفعل أهل الشطحات القائلين بوحدة الوجود. نعم! ذلك هو طريق القرآن.
قال رحمه الله في بيان عجيب، تُشد إلى مثله الرحال:
(إن هذا الطريق أسْلَمُ من غيره؛ لأن ليس للنفس فيه شطحات، أو ادعاءات فوق طاقتها؛ إذ المرء لا يجد في نفسه غير العجز، والفقر، والتقصير، حتى لا يتجاوز حده. ثم إن هذا الطريق طريق عام وجادة كبرى، لأنه لا يضطر إلى إعدام الكائنات، ولا إلى سجنها، حيث إن أهل "وحدة الوجود" توهموا الكائنات عدماً، فقالوا: "لا موجود إلا هو" لأجل الوصول إلى الاطمئنان والحضور القلبي. وكذا أهل "وحدة الشهود" حيث سجنوا الكائنات في سجن النسيان، فقالوا: "لا مشهود إلا هو" للوصول إلى الاطمئنان القلبي.
بينما القرآن الكريم يعفي الكائنات بكل وضوح عن الإعدام، ويطلق سراحها من السجن.
فهذا الطريق على نهج القرآن ينظر إلى الكائنات أنها مسخرة لفاطرها الجليل، وخادمة في سبيله، وأنها مظاهر لتجليات الأسماء الحسنى، كأنها مرايا تعكس تلك التجليات. أي أنه يستخدمها بالمعنى الحرفي، ويعزلها عن المعنى الاسمي، من أن تكون خادمة ومسخرة بنفسها.
وعندها ينجو المرء من الغفلة، ويبلغ الحضور الدائمي على نهج القرآن الكريم. فيجد إلى الحق سبحانه طريقاً من كل شيء) ([18]).
ذلك إذن؛ وجه من وجوه الفرق ما بين البرزخية الصوفية والمعراج القرآني المباشر. وإن دل هذا على شيء فإنما يدل على أن المعرفة الصوفية عند بديع الزمان - رغم ما كان يكنه لها من احترام - معرفة قائمة على منهج المغامرة، وذلك بما هي معرفة ناقصة غير كاملة، وبما يشوبها من تدخل الذات الإنسانية وأحوالها. فهي لذلك في حاجة إلى تأمين.
وإنما تأمينها هو (المعراج القرآني).
وبيان ذلك هو كما يلي:
ج- المعرفة القرآنية مضمونة مأمونة والمعرفة الصوفية مغامرة: