تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

بالله عليك أهذا شعر؟ بالله عليك أهذه موسيقى؟ إننى لأشعر أننا جالسون على مِصْطَبَة فى قرية من القرى نستمع إلى كلام سخيف يظنه صاحبه العامىّ الفَدْم شعرا، وما هو من الشعر فى دِقٍّ أو جِلٍّ. ولا تنس أيضا القافية التى اضطربت اضطرابا رهيبا بسبب جرينا على تسكين أواخر كلماتها طبقا لنظرية أنيس، إذ وجدناها مرة تنتهى بالسكون، وأخرى بمدة الياء، وهو ما لا أدرى كيف يحله لنا د. أنيس بنظريته المُخَرْبَقَة. أما القصيدة على وضعها بعد الإعراب (المخترَع فى زعم د. أنيس) فهى من الإبداع الفنى فى الذروة:

فَمِثلِكِ حُبلى قَد طَرَقتُ وَمُرضِعٍ * فَأَلهَيتُها عَن ذي تَمائِمَ مُحْوِلِ

وَيَوماً عَلى ظَهرِ الكَثيبِ تَعَذَّرَت * عَلَيَّ وَآلَت حَلفَةً لَم تُخَلَّلِ

وَبَيضَةِ خِدرٍ لا يُرامُ خِباؤُها * تَمَتَّعتُ مِن لَهوٍ بِها غَيرَ مُعجَلِ

تَجاوَزتُ أَحراساً إِلَيها وَمَعشَراً * عَلَيَّ حِراصًا لَو يُسِرّونَ مَقتَلي

فَقالَت يَمينَ اللَهِ ما لَكَ حيلَةٌ * وَما إِن أَرى عَنكَ الغِوايَةَ تَنجَلي

خَرَجتُ بِها أَمشي تَجُرُّ وَراءَنا * عَلى أَثَرَينا ذَيلَ مِرطٍ مُرَحَّلِ

إِذا اِلتَفَتَت نَحوي تَضَوَّعَ ريحُها * نَسيمَ الصَبا جاءَت بِرَيّا القَرَنفُلِ

فانظر، يا رعاك الله، إلى هذه المفارقة: كيف أن الشعر الجاهلى، ومثلُه فى ذلك الشعر الإسلامى والأموى، وربما بعض العباسى بناء على نظرية الدكتور أنيس، إن تركتَه على وضعه الأصلى، أى إن اتبعت الحق من وجهة نظر الدكتور، لم تجد بين يديك إلا هذه الفقاقيع السخيفة البائرة التى لا تنتمى إلى الشعر ولا تساوى شيئا فى ميدان الفن والإبداع والموسيقى، أما إن اتبعت الباطل حسبما تهرف نظرية الأستاذ الدكتور، وأجريت هذا الشعر على النظام الإعرابى (المخترع على حد زعمه) تحَصَّلَ لك فى الحال ذلك الإبداع الفاتن. فيا لها من مصادفة عجيبة عجب المنهج العلمى الذى استخدمه الأستاذ الدكتور فى بحثه العبقرى الذى لا يخر الماء: أن تستقيم أمور الشعر العربى القديم على الباطل، وتلتوى مع الحق. ومع هذا يصر إبراهيم أنيس على أن يركب دماغه ويزعم أن العربية لم تكن تعرف الإعراب إلا بعد الإسلام بقرن أو يزيد. عجايب!

وهكذا يتبين لنا أنْ لو كانت العربية ساكنةَ أواخر الكلمات دائما فلا تتحرك تلك الأواخر إلا عند التقاء ساكنين لما كان الشعر الجاهلى والإسلامى والأموى وشطرا غير قليل من الشعر العباسى موززنا، وأن تلك الأشعار، وياللعجب، قد اكتسبت بهذا التغيير الطارئ العجيب جمالا وانتظمت موسيقاه انتظاما لم تكن تعرفه من قبل؟ فأية مصادفة حسناء هذه؟ ثم جاء الخليل بن أحمد فتم الحسن على يديه وبلغ الغاية، إذ استطاع أن يستخرج من هذا النظام الإيقاعى القائم على المصادفة علمًا للعروض والقافية مستقيما غاية الاستقامة، دقيقا منتهى الدقة. على أن الأمر لا يقف هنا، بل إن الشعر الجاهلى، بدون الإعراب، ليستغلق فى كثير من الأحيان على قارئيه ومستمعيه بسبب ما فيه من تقديم وتأخير للكلمات عن مواضعها أو الإتيان بجمل وعبارات اعتراضية، مما لا يزيل غموضَه ولَبْسَه إلا الإعراب، الذى لم يكن موجودا فى ذلك الحين طبقا لفكرة الأستاذ الدكتور المتهايلة.

ومعنى ذلك ثالثا أن الأمة كلها قد تواطأت على الكذب، إذ زعم الزاعمون من علمائها النحويين أن العرب كانوا يعرفون الإعراب منذ وقت طويل قبل الإسلام، ووافقتهم الأمة كلها على هذا: وافقتهم بالإيجاب فرددت هذه المقولة معهم كذبًا منها ومَيْنًا، أو بالسلب فسكتت على هذه الكذبة البلقاء وتركتها تروج وتسود فلا يعود ثم موضع للفكرة الحقيقية بعد هذا أبدا. أما إذا لم ترد، أيها القارئ، أن تَصِم الأمةَ الإسلاميةَ كلها بالكذب والتواطؤ على الكذب فيمكنك أن تقسمها فريقين: فريق من الكذابين الوقحين، وفريق آخر من البله المعاتيه الذين ابتلعوا طعم تلك الكذبة البلقاء دون أن يفتحوا فمهم بكلمة لأنهم بله معاتيه. ومتى كان البله المعاتيه يفقهون شيئا أو يتنبهون إلى شىء؟ وهذا كله يشبه ما طلع علينا به عام 1926م المستشرق البريطانى ديفيد صمويل مرجليوث حين زعم أنه لم يكن هناك شعر جاهلى ولا إسلامى قط، وأن هذا الشعر الذى ينتمى إلى هذين العصرين إنما صنع صنعا فى العصر العباسى. وقد رددتُ على سخفه بذات الطريقة التى فندتُ بها

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير