إن مَثَل الفيلسوف القائل بالتصاحب بين الفلسفة والحكمة عند بديع الزمان كمَثَل من يسلك طريقا على وجه الأرض في صحراء شاسعة، فتأتيه الأهوال من كل جانب بين غضب البحر وتهديد العاصفة وظلمة السماء، فتصيِّره أشلاء مبعثرة على حافة الطريق، وتكون منزلته في القرآن الحكيم منزلة "المغضوب عليهم". (11)
وإذا قارنا بين هذا النقد الإشاري للتصاحب والنقد الإشاري السابق للتداخل، تبيَّن أن القائل بالتصاحب أسوأ حالا من القائل بالتداخل، ذلك أن في سلوك الأول لطريق فوق الأرض، أي طريق تحت السماء -التي هي رمز الوحي- وتحت الشمس -التي هي رمز النور-، إشارةً إلى أن تحديه لربوبية الحكيم يزيد درجات عن غرور الثاني؛ فهذا لا يسلك إلا طريقا تحت الأرض، لا يرى فيه شمسا ولا سماء؛ كما أن في إلقاء البحر أشلاء الأول على جانب الطريق إشارةً إلى أن عمله أشبه بعمل فرعون، فاستحق أن يلقى نفس المصير موتا واعتبارا، (12) بينما لا نظفر من الثاني إلا بشبح، فلا يكون عبرة للناس ببدنه، وإنما بآثاره وحدها.
من ثمَّ، يصبح الفيلسوف المشائي الكبير الذي لم يرد اسمه على لسان بديع الزمان إلا قليلا، وهو: ابن رشد، معدودا عنده في زمرة المغضوب عليهم، (13) إذ كان يقول بالتصاحب بين الفلسفة والحكمة ويعمل على مقتضاه، وهو عمَلٌ فَسق به فسوقا أشبه بتمرد اليهود؛ (14) ولما كان بديع الزمان قد انخدع بدهائه هو الآخر -على حد تعبيره- واعتقد الصحة في رأيه، كاد أن يتعرض هو نفسه لغضب الله لولا أن الله تجلى عليه باسمه "الرحيم"، فهداه الصراط المستقيم.
وعلى هذا، فإن العمل بمبدإ تصاحب الفلسفة والحكمة يُنتج إنسانا غير بصير ولا معتبِر ولا معترف ولا سعيد ولا ناج.
وبعد أن أنهينا الكلام عن الجانب النقدي في الموقف الانقلابي الذي اتخذه بديع الزمان من العلاقة بين الفلسفة والحكمة، نمضي إلى بيان عناصر الجانب البنائي في هذا الموقف الجديد.
2.2. انقلاب بديع الزمان والقول بالفصل بين الفلسفة والحكمة؛
يتمثل الجانب البنائي من هذا الانقلاب الفكري في كون بديع الزمان يستبعد كلا الجمعين المذكورين بين الفلسفة والحكمة -أي جمع التداخل وجمع التصاحب- ويأخذ بضده، أي يأخذ بفصل أو تفريق مخصوص بينهما، متوسلا في ذلك بآلية خطابية محددة.
1.2.2. الفصل الاستتباعي بين الفلسفة والحكمة:
يستبعد بديع الزمان جمع التداخل الذي يُنزل الفلسفة والحكمة رتبةً واحدة ما لم تتعارضا، ويأخذ بتفريق -أو فصل- في الرتبة بينهما ولو لم تتعارضا، ممارسا آلية القلب على المبدأين اللذين يتقوَّم بهما هذا الجمع، أي "مبدإ التأسيس العقلي للنقل" و"مبدأ التوسل بالعقل في النقل"؛ ومقتضى القلب، كما هو معروف، تغيير الرتبة، فإن كان الشيء مقدَّما، صيَّره مؤخَّرا، وإن كان مؤخرا، صيّره مقدما؛ وحينئذ، يصبح المبدآن اللذان ينبني عليهما هذا الفصل هما بالذات: "مبدأ التأسيس النقلي للعقل" و "مبدأ التوسل بالنقل في العقل"؛ وبيان ذلك كما يلي:
أ- مبدأ تأسيس العقل على النقل:
يذهب بديع الزمان إلى أن العقل -أي العقل الدائر بين الناس- والنقلَ -أي النقل في معناه الأعم- كليهما يحتاج إلى التأسيس، ولا يمكن أن يأتي التأسيس من هذا العقل الناقص كما لا يمكن أن يأتي من النقل العام، بل لا بد من طريق ثالث لا يكون فيه نقصان العقل ولا عموم النقل، بل يجمع إلى العقل الأكمل النقل الأخص؛ وليس هذا الطريق الثالث إلا القرآن الحكيم، ففيه من أسباب كمال العقل ما يؤهله لتأسيس العقل الدائر بين الناس، وفيه من أسباب خصوصية النقل ما يؤهله لتأسيس النقل عامة. (15)
ب- مبدأ التوسل بالنقل في العقل:
يذهب بديع الزمان إلى أن العقل -وتمثله الفلسفة البشرية خير تمثيل- لا يقدر على أن ينفع الناس وأن يحقق لهم السعادة حتى يتوسط بالنقل -ويمثله الوحي الإلهي أفضل تمثيل-؛ وبدون هذا التوسط، لا يخلو العقل من أسباب النفع والإسعاد فحسب، بل ينقلب بالضرر على الإنسان ويبلغ فيه هذا الضرر أقصاه، (16) لأنه لا مفر من أن يضل الطريق ويتعرض لغضب الله.
¥