تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

وبهذا، يصير النقل -ممثَّلا بحكمة القرآن- هو الأصلَ، والعقلُ -ممثَّلا بفلسفة البشر- هو الفرع متى ثبتت موافقته لما جاء به النقل؛ لذا، جاز أن نسمي التفريق -أو الفصل- في الدرجة بين الحكمة والفلسفة الذي قابل به بديع الزمان الوصل التداخلي بينهما باسم "التفريق - أو الفصل – الاستتباعي"، حيث إن الفلسفة تصبح تابعة للحكمة وخادمة لها؛ (17) وهذا بالذات ما يستفاد من تمييز بديع الزمان بين الفلسفة النافعة والفلسفة الضارة في رسالة موجهة إلى طلاب الفلسفة الحديثة (18) الذين أقبلوا على رسائل النور؛ فبصرف النظر عن الاعتبارات الظرفية التي قد تدعوه إلى مثل هذا التمييز كرغبته في استمالة هؤلاء الطلاب المتفلسفة وتشجيعهم على المضي في قراءة هذه الرسائل واتقاءِ شر الخصوم، فإنه يجعل الفلسفة النافعة خادمة لحكمة القرآن كما لو كانت متفرعة عليها، نظرا لأنها "تخدم الحياة الاجتماعية البشرية، وتعين الأخلاق والمثل الإنسانية، وتمهد السبل للرقي الصناعي". (19)

ومن شأن العمل بهذا الفصل الاستتباعي أن يُخرج لنا إنسانا راسخ الإيمان قوي الحجة ناكرا لذاته غير متعلق بالظاهر ولا تائها عن الطريق، أو قل بإيجاز إنسانا مَهديا.

2.2.2. الفصل الاستبدالي بين الفلسفة والحكمة:

يستبعد بديع الزمان أيضا جمع التصاحب بين الفلسفة والحكمة، ويأخذ بتفريق -أو فصل- في النوع (أو الطبيعة) بينهما، ممارسا لآلية الاستبدال عليهما؛ ومقتضى الاستبدال هنا هو جعل الشيء بدلا من غيره، بحيث يصير البدل قائما بوظائف المُبدَل منه على أحسن وجه؛ وحينئذ، تصبح الحكمة عند بديع الزمان بديلا عن الفلسفة، ناهضة على أفضل وجه بالمبادئ الثلاثة التي تدعي الفلسفة الاختصاص بها، أي "مبدأ الاندهاش" و"مبدأ الاستشكال" و"مبدأ الاستدلال"؛ وتوضيح ذلك كما يلي:

أ- مبدأ الاندهاش:

يرى بديع الزمان أن الصورة الأبلغ والأكمل لمبدإ الاندهاش تتحقق في حكمة القرآن المبين، وذلك من وجهين:

• أن القرآن يخرق ستار العادة المسدول على الأشياء في أنفسنا وفي الآفاق من حولنا، فيجعلنا نتعجب من الأسرار المودعة فيها ونكتشف ما تنطوي عليه من خوارق القدرة الإلهية وعجائبها العظيمة.

• أن القرآن كلام معجز، ومعلوم أنه لا صفة أبلغ من "الإعجاز" في إثارة الاندهاش، فما بالك إذا كان إعجازا من قبيل الإعجاز القرآني! فعندئذ، لا بد أن يبلغ اندهاش المرء نهايته.

وعلى هذا، فإذا كان التفلسف، كما قيل، يبدأ بالاندهاش، فإن الاندهاش الذي هو بداية الحكمة ليس فوقه اندهاش، حيث إنها تحظى به في تأمل إعجاز القرآن الداعي إلى منتهى الاندهاش، بما أنه هو مَجْلى اسم الحكيم من أسماء الله الحسنى؛ ومن هنا، ندرك لِمَ بدأ بديع الزمان مساره في الحكمة بالاشتعال ببيان إعجاز القرآن، عملا بالرؤية الصادقة التي رآها، وهي رؤية انفلاق الجبل المذكورة أعلاه، إذ جاءه فيها شخص عظيم بِأمر مخصوص، قائلا: "بيِّن إعجاز القرآن". (20)

ب- مبدأ الاستشكال:

يرى بديع الزمان أن الصورة الأصح والأتم لمبدإ الاستشكال تتحقق هي الأخرى في حكمة القرآن، وذلك من وجهين هما:

• أن القرآن يحدد أفضل نطاق يمكن أن توضع فيه الأسئلة، ذلك أن السؤال لا يستقيم إلا إذا دار على مقصد مخصوص، والقرآن له مقاصد أصلية هي: "التوحيد" و"الوحي" و"الآخرة" و"الاستقامة" أو بتعبير بديع الزمان، "إثبات الصانع" و"النبوة" و"الحشر" و"العدالة"؛ (21) فما من آية من آياته البينات إلا وتتعلق بمقصد واحد أو أكثر من هذه المقاصد الأربعة، بل إن الآية الواحدة، على قِصَرها، قد تشتمل عليها جميعها، نازلة بذلك منزلة القرآن كله؛ وأما ما جاء فيه من مقاصد أخرى تتصل بالكائنات وخصائصها، فهو تابع لهذه المقاصد الأربعة وخادم لها؛ وعلى هذا، ينبغي أن تدور أسئلة الحكيم على هذه المقاصد وحدها، ولا تخرج إلى التساؤل عن الخواص الطبيعية للموجودات إلا أن يكون ذلك بغرض تبيُّن هذه المقاصد الأصلية من ورائها.

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير