تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

ومن المغالطات المنهجية التي تورط فيها الراحل نصر أبو زيد في المجال الفقهي الهجوم الشرس الذي شنه على الإمام محمد بن إدريس الشافعي، متهماً إياه بالأدلجة!، وأنه أول ساعٍ في توسيع سلطة النصوص الشرعية، وتضييق دائرة العقل، بربط الاجتهاد والقياس بالنصوص، وادعى أن الشافعي بتوصيفه القياس على أنه كاشف للحكم، يسعى إلى " تكريس سلطة الماضي، بإضفاء طابع ديني أزلي " [الإمام الشافعي وتأسيس الأيديولوجية الوسطية (146)، مكتبة مدبولي، القاهرة، ط ثالثة، 2003م] في خطابه، وهذا ما أدى في نظر الراحل أبي زيد إلى " تكبيل الإنسان، بإلغاء فعاليته وإهدار خبرته " [نفس المرجع].

وهذا التجَنِّي المثير يروج دوماً على "التاريخانيين" من شباب اليوم، وعلى من يروم التطفل على أحكام الشريعة من كهوله، وعلى الضائقين بحدود الدين من متنفذيه، لأنَّ ما قامَ به الإمام الشافعي قطع به الطريق على كل متقوِّلٍ في الشرع بغير علم، واستنَّ منهجاً في البحث ينظِّم للناظر طرائق الاستنباط، ويزهق مسالك الحجاج الفاسد. وبما أنَّ الراحل نصر أبو زيد كان ينتمي إلى التيار اليساري [ظاهرة اليسار الإسلامي؛ لمحسن الميلي، دار النشر الدولي، الرياض، ط أولى، 1414هـ]، ويعتقد أنَّ القرآن الكريم ذاته نصٌّ تاريخي، فيقول: " إنَّ الخطاب الإلهي خطابٌ تاريخي، وبما هو تاريخي فإنَّ معناه لا يتحقق إلا من خلال التأويل الإنساني، إنه لا يتضمن معنىً مفارقاً جوهرياً ثابتاً، له إطلاقية المطلق، وقداسة الإله "اهـ، من: [النص، السلطة، الحقيقة؛ د. نصر أبو زيد (33)]، وهذا يفيد أن الراحل كان يروم إسقاط كثيرٍ من التكاليف القرآنية الشرعية بحجة الصيرورة التاريخية، وقد باحَ الدكتور في موضعٍ لاحقٍ من كتابه هذا بنحو ما ذكرته، كما في كتابه المذكور ص (139).

لم يكن الراحل نصر أبو زيد يستنكف عن الدعوة إلى الثورة، لا على منهج الإمام الشافعي وإخوانه من أئمة الإسلام، بل على مصادر الشريعة نفسها، وكان يصرح بأنه " قد آنَ أوان المراجعة والانتقال إلى مرحلة التحرر ـ لا من سلطة النصوص وحدها ـ بل من كل سلطة تعوق مسيرة الإنسان في عالمنا، علينا أن نقوم بهذا الآن وفوراً، قبل أن يجرفنا الطوفان " [النص، السلطة، الحقيقة؛ د. نصر أبو زيد (33)]، بهذه الكلمات ختم الراحل نصر أبو زيد رسالته حول الإمام الشافعي، وقد أشبعها تحاملاً على المنهج المحكم الذي استوحاه الإمام الشافعي من مصادر الشريعة، في حين أن المنصفين يعلمون أن الإمام الشافعي قد قرر غير مرة مشروعية القياس الصحيح، ووسع القول فيه وجعله موازيا لمفهوم الاجتهاد!، ومنع القياس بمجرد الهوى والتشهي، لأنه يصبح حينئذ مصدراً غير موضوعي، فلا يوثق به، وهذا ما تقرره أصول القانون الوضعي، انظر مثلاً: الرسالة للإمام الشافعي (24،23).

ولم يذكر لنا أبو زيد ما الطوفان الذي سيجرفه إذا هو لم يقم بالتحرر من النصوص الإلهية والنبوية المحكمة، أما هذه الأمة ـ بحمد الله تعالى ـ فهي تسير على هذا المنهج الراسخ منذ أربعة عشر قرناً من الزمان، ولم يجرفها طوفانٌ، ما عدا بعض الهنات التي وقعت فيها بعض أجيالها، لا بسبب استمساكها بالنصوص، بل بابتعادها عنها، فكلما كانت من النصوص ومعانيها ومقاصدها أبعد، كانت أقل وأذل، وكلما استمسكت بكتابها كانت أعزّ وأغلب، قال تعالى: (أَفَمَن كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّهِ وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِّنْهُ وَمِن قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى إَمَامًا وَرَحْمَةً أُوْلَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَن يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الأَحْزَابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ فَلاَ تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِّنْهُ إِنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يُؤْمِنُونَ) [هود (17) وقال عزّ اسمه: (فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ) [الزخرف (43)]، قال ابن كثير (4/ 129) في معنى الآية: " أي: خُذْ بالقرآن المنَزَّلِ على قلبك، فإنه هو الحق، وما يهدي إليه هو الحق، المفضي إلى صراط الله المستقيم، الموصل إلى جنات النعيم، والخير الدائم المقيم "اهـ.

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير