تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

كما زعم الراحل نصر أبو زيد، أنَّ تصدي الإمام الشافعي لنقد الاستحسان الأصولي المبني على التشهي المجرد دون دليل، إنما هو موقفٌ " أيديلوجي" على حد قوله من هذا الإمام، " يعكس رؤيةً للعالَم والإنسان، تجعل الإنسان مغلولاً دائماً بمجموعة من الثوابت، التي إذا فارقها حَكَمَ على نفسه بالخروج من الإنسانية " [الإمام الشافعي وتأسيس الأيديلوجية الوسطية (139)]، هذه هي النتيجة التي حاول الراحل تقريرها في خاتمة كتابه الذي عنونَه ب"الإمام الشافعي وتأسيس الأيديلوجية الوسطية "، وقد حشا الكتاب بطائفة من التهم الموجهة إلى منهج هذا الإمام في التأصيل الفقهي، خصوصاً في كتابه الفذ "الرسالة". وفي اعتقادي أنه لم يجئ اختيار الراحل لرسالة الشافعي في الأصول عبثاً، خصوصاً حين نتذكر أنها اللبنة الأولى في التأليف في علم أصول الفقه، واستهدافها بالهجوم يوفِّر على خصوم السنة النبوية والفقه الإسلامي جهوداً جمة.

إن اتهام الراحل أبو زيد للإمام الشافعي بأنه المؤسس لسلطة النص، وأنه هو الذي جعل لنصوص الكتاب والسنة المرجعية في مجالات الحياة الاجتماعية والسياسية، إنها تهمة باردة لا تساعده عليها حقائق التاريخ وبدهياته، فمن المعلوم أن مدرستي الحديث والرأي كانتا جميعاً تحتكمان إلى (النصوص)، ولم يكن الخلاف بينهما في مدى حجية النص الشرعي، بقدر ما كان النزاع في مدى ثبوته لدى كل منهما، وإلا فالجميع متفقون على أنه إذا تعارض الرأي والنص الثابت؛ يقدم النص الشرعي حتماً. ولقد كان من أهم بواعث الخلاف بين المدرستين قلة الأحاديث التي بلغت أهل الرأي، مقارنةً بتلك التي اشتغل بها أهل الحديث حفظاً وتفقهاً، قال أبو العباس ابن تيمية: " قال أبو يوسف وهو أجل أصحاب أبى حنيفة، وأول من لقب قاضي القضاة لما اجتمع بمالك وسأله عن هذه المسائل - أي مسألة مقدار الصاع النبوي، وترك صدقة الخضروات، والأحباس، وقد أشار إليها المؤلف قبل ذلك -، وأجابه مالك بنقل أهل المدينة المتواتر، رجع أبو يوسف إلى قوله، وقال: " لو رأى صاحبي مثل ما رأيت؛ لرجع مثل ما رجعت "، فقد نقل أبو يوسف أن مثل هذا النقل حجة عندصاحبه أبي حنيفة، كما هو حجة عند غيره، لكنَّ أبا حنيفة لم يبلغه هذا النقل، كما لم يبلغه ولم يبلغ غيره من الأئمة كثير من الحديث، فلا لوم عليهم في ترك ما لم يبلغهم علمه، وكان رجوع أبي يوسف إلى هذا النقل كرجوعه إلى أحاديث كثيرة اتبعها هو وصاحبه محمد وتركا قول شيخهما، لعلمهما بأن شيخهما كان يقول: (إن هذه الأحاديث أيضاً حجةٌ إن صحت) أي إن بلغته صحيحة، لكنها لم تبلغه.

ومن ظنَّ بالإمام أبي حنيفة أو غيره من أئمة المسلمين أنهم يتعمدون مخالفة الحديث الصحيح لقياس أو غيره فقد أخطأ عليهم، وتكلم بالظن أو بالهوى، فهذا أبو حنيفة يعمل بحديث الوضوء بالنبيذ في السفر، مخالفةً للقياس، وبحديث القهقهة في الصلاة مع مخالفته للقياس، لاعتقاده صحتهما وإن كان أئمةُ الحديث لم يصححوهما [مجموع الفتاوي؛ لابن تيمية (20/ 305،304) ثم قال ابن تيمية: " وقد بينا هذا في رسالة رفع الملام عن الأئمة الأعلام، وبينا أن أحداً من أئمة الإسلام لا يخالف حديثاً صحيحاً بغير عذر، بل لهم نحوٌ من عشرين عذراً، مثل أن يكون أحدهم لم يبلغه الحديث، أو بلغه من وجه لم يثق به، أو لم يعتقد دلالته على الحكم، أو اعتقد أن ذلك الدليل قد عارضه ما هو أقوى منه كالناسخ أو ما يدل على الناسخ وأمثال ذلك ". وكلا المدرستين تنتسب إلى طائفةٍ من علماء الصحابة رضي الله عنهم، فقد تفقه أهل العراق على ابن مسعود رضي الله عنه وأصحابه، وتفقه أهل المدينة على زيد بن ثابت وابن عمر رضي الله عنهما وأصحابهما، كما بسط القول فيه ابن القيم في فاتحة إعلام الموقعين.

والإمام الشافعي لما كان قد تفقه على المدرستين حكى إجماعهم على الاحتكام إلى السنة، فقد قال: " أجمع الناس على أنَّ من استبانت له سنةٌ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن له أن يدعَها لقول أحدٍ من الناس " [إعلام الموقعين؛ لابن القيم (1/ 21)]، فزعم الراحل نصر أبو زيد أن الإمام الشافعي قد اخترع أصل الرجوع إلى النص الشرعي ترده هذه الحقائق الثابتة.

ثم إن الإمام الشافعي لم يمنع العقل من دورِه الذي هو دورُه حقاً، وهو التفقه في النص، واستنباط الأحكام منه، بل لم يمنع الاستحسان بمعناه الصحيح كما تقدَّم، وإنما منع استبداد العقول بالأحكام دون الوحي، وهذا لو عَقَلَ الكاتبُ قسيمٌ للاستبداد السياسي. هذا في مجال الشرعيات، أما في مجال الدنيويات فلم يمنع الإمام الشافعي ولا غيره من الأئمة من العمل والإبداع فيها، بل إن النهج الذي رسمه لهو أقرب الطرق في حفز العقول على الابتكار، إذ قد كفاها مؤونة الفكر والتنقيب في الغيبيات والتعبدات وما اندرج تحتها، وفرَّغها للبحث فيما تحته عملٌ، مما ينفع الناس في دينهم ودنياهم، وفي هذا السياق تأتي مقولته المشهورة: " حكمي في أصحاب الكلام أن يضربوا بالجريد ويحملوا على الإبل ويطاف بهم فى العشائر والقبائل، يقال: هذا جزاء من ترك الكتاب والسنة وأخذ في الكلام "اهـ[مناقب الشافعي؛ للبيهقي (1/ 452)، الانتقاء؛ لابن عبدالبر (1/ 80)، البداية والنهاية؛ لابن كثير (10/ 254)].

أخيراً لا يسعنا إلا أن نقول إن طريقة الراحل أبو زيد من جرى مجراه في تناول القرآن وعلومه على أنه درس لاهوتي أكاديمي لم تصنع منهجاً موضوعياً يصلح لمحاكمة الأفكار والتفسيرات، كما أنه لم يقنع القطاع العريض من أبناء الأمة سواء كانوا مشتغلين بالإسلاميات من شتى الأطياف الفكرية، أو عوام المثقفين من الجمهور المحايد، وعسى أن يكون رحيله فرصة لمراجعة الأفكار التي يطرحها هذا الفريق، ومحاكمتها إلى المحكمات الشرعية والقطعيات العقلية. والله تعالى أعلم، وصلوات الله وسلامه على عبده ورسوله محمد، وعلى آله وأزواجه وذريته وأتباعه بإحسان، والحمد لله رب العالمين.

المصدر ( http://groups.google.com.sa/group/azizkasem/browse_thread/thread/a890a7dfb3a66040#)

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير