تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

فقد قرأت قبل سنوات بحثاً للدكتور يوسف الأنصاري عن أسرار تعدية الفعل في القرآن الكريم، جاء فيه أن الفعل (دخل) ورد في القرآن متعدّياً بـ (على) و (في) و (من) و (الباء) و (مع)، كما وأذكر أنه - حفظه الله - ضرب في بحثه المذكور أمثلة على كل وجه من أوجه "التعدّي" بحروف الجرّ، ومنها ما ذكرته في مشاركتي السابقة. وكان هدفه من ذلك بيان المعاني والدلالات التي تشيعها حروف الجرّ في سياقاتها المختلفة مع الفعل (دخل).

وليس هدفي من هذه المشاركة أن أعرض للخلاف بين سيبويه والمبرد - رحمهما الله - حول تعدية هذا الفعل، ولكني أقول: لابدّ من وقفة على الفعل (دخل) واستعماله في لغة التنزيل، وهذا لا يتأتّى إلا باستقراء الآيات التي اشتمل عليها ..

وإذ ذاك نجد اختلافاً واسعاً في استعمالاته، منها:

أولاً: في المحسوسات من الأسماء الدالّة على الأمكنة والظروف المكانية.

وثانياً: في الدخول على العاقل من الآدميين.

وثالثاً: في الأمور العقلية أو ما يُدعى بأسماء المعاني.

ورابعاً: في تجاوز حقيقته مجازاً لعلاقة من العلاقات ..

ففي الحالة الأولى يصل الفعل إلى مدخوله من غير أداة واسطة كحروف الخفض، كما جاء في قوله تعالى: (وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلَى حِينِ غَفْلَةٍ مِّنْ أَهْلِهَا) [القصص: 15]، وقوله: (أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلِكُم) [البقرة: 214]، وقوله: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَن يُؤْذَنَ لَكُمْ) [الأحزاب: 53]، وقوله: (ادْخُلُوهَا بِسَلاَمٍ آمِنِينَ) [الحجر: 46].

وحين يُطوى اسم المكان الذي يصير إليه الداخل، ويكون الدخول على الآدميين، فنلاحظ أنه يستعمل حرف الجرّ (على)، كما في قوله تعالى: (وَلَمَّا دَخَلُواْ عَلَى يُوسُفَ آوَى إِلَيْهِ أَخَاهُ) [يوسف: 69]، وقوله: (إِذْ دَخَلُوا عَلَى دَاوُودَ فَفَزِعَ مِنْهُمْ) [ص: 22]، وقوله: (وَالمَلاَئِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِم مِّن كُلِّ بَابٍ) [الرعد: 23]. وقد يظهر المكان المدخول فيه مع ذكر الآدميين، كقوله تعالى: (كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِندَهَا رِزْقاً) [آل عمران: 37].

كما نلاحظ أن فعل الدخول استعمل أيضاً في بضع آيات قاصراً لازماً غير متّصل بمتعلّق به، كقوله تعالى: (كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَّعَنَتْ أُخْتَهَا) [الأعراف: 38]، وقوله: (وَلَكِنْ إِذَا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا) [الأحزاب: 53]، وقوله: (لاَ تَدْخُلُواْ مِن بَابٍ وَاحِدٍ وَادْخُلُواْ مِنْ أَبْوَابٍ مُّتَفَرِّقَةٍ) [يوسف: 67]. ومن غير شكّ أن المتعلّق وهو الاسم المكاني، أو المدخول عليهم من الآدميين قد طُوي ذكره في هذه الآية لعدم الحاجة إليه ..

أما إذا كان الدخول في الأمور العقلية، أو ما يُدعى بأسماء المعاني، فنلاحظ أن الفعل يتطلّب في هذه الحال حرف الجرّ (في) أو (الباء)، كما في قوله تعالى: (وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا) [النصر: 2]، وقوله: (وَقَد دَّخَلُواْ بِالْكُفْرِ وَهُمْ قَدْ خَرَجُواْ بِهِ) [المائدة: 61]. كما وقد يُحمل استعمال الفعل في الأمور المعنوية، كقوله تعالى: (فَادْخُلِي فِي عِبَادِي * وَادْخُلِي جَنَّتِي) [الفجر: 29 - 30]. فالمراد بالدخول في العباد الاتصال بهم والعيش بينهم، فجاز استعمال (في)، في حين عُطف عليه قوله (وادخلي جنتي)، وذلك لأن المدخول فيه من الأسماء الدالّة على المكان.

وأما حين يتجاوز استعمال الفعل (دخل) حقيقته مجازاً لعلاقة من العلاقات، فنلاحظ أنه يتطلّب في هذه الحال حرف الجرّ (الباء)، كما في قوله تعالى: (فَإِن لَّمْ تَكُونُواْ دَخَلْتُم بِهِنَّ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ) [النساء: 23] فالدخول بالزوج هنا هو كناية عن الجماع.

وغير خافٍ من هذه الاستعمالات أنها تكشف عمّا تومض به حروف الجرّ من المعاني والأسرار في البيان القرآني، فلكل حرف دلالات بلاغية ينشرها على السياق، كما أن لكل حرف استعماله المطرد في آي الذكر الحكيم ..

فما رأيكم - حفظكم الله؟

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير