وقد تقرر في الأصول أن البيان يصح بكل ما يزيل الإشكال ولو قرينة أو غيرها كما قدمناه موضحاً في ترجمة هذا الكتاب المبارك، وعليه - فهذه الأحاديث التي ذكرنا تبين أن المقصود من قوله في الحديث المتفق عليه «لا نورث» أنه يعني نفسه. كما قال عمر وجميعَ الأنبياء كما دلت عليه الروايات المذكورة.
والبيان إرشاد ودلالة يصح بكل شيء يزيل اللبس عن النص من نص أو فعل أو قرينة أو غير ذلك قال في مراقي السعود في تعريف البيان وما به البيان:
تصيير مشكل من الجلي ... وهو واجب على النَّبي
إذا أريد فهمه وهْو بما ... من الدليل مطلقا يجلو العما
وبهذا الذي قررنا تعلم: أن قوله هنا {يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ} يعني وراثة العلم والدين لا المال. وكذلك قوله: {وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ} الآية. فتلك الوراثة أيضاً وراثة علم ودين. والوراثة قد تطلق في الكتاب والسنة على وراثة العلم والدين، كقوله تعالى: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الكتاب الذين اصطفينا مِنْ عِبَادِنَا} الآية، وقوله: {وَإِنَّ الذين أُورِثُواْ الكتاب مِن بَعْدِهِمْ لَفِي شَكٍّ مِّنْهُ مُرِيبٍ} وقوله: {فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُواْ الكتاب} الآية، إلى غير ذلك من الآيات.
ومن السنة الورادة في ذلك ما رواه أبو الدرداء رضي الله عنه عن النَّبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «العلماء ورثة الأنبياء» وهو في المسند والسنن قال صاحب (تمييز الطيب من الخبيث، فيما يدور على ألسنة الناس من الحديث): رواه أحمد وأبو داود والترمذي وآخرون عن أبي الدراداء مرفوعاً بزيادة «إن الأنبياء لم يورثوا ديناراًً ولا درهماً، وإنما ورثوا العلم» وصححه ابن حبان والحاكمُ وغيرهما - انتهى منه بلفظه.
وقال صاحب (كشف الخفاء ومزيل الإلباس عما اشتهر من الأحاديث على ألسنة الناس): «العلماء ورثة الأنبياء» رواه أحمد والأربعة وآخرون عن أبي الدرداء مرفوعاً بزيادة «إن الأنبياء لم يورثوا ديناراً ولا درهماً وإنما ورثوا العلم. .» الحديث، وصححه ابن حبان والحاكم وغيرهما، وحسنه حمزة الكناني وضعفه غيرهم لاضطراب سنده لكن له شواهد.
ولذا قال الحافظ: له طرق يعرف بها أن للحديث أصلاً، ورواه الديلمي عن البراء بن عازب بلفظ الترجمة اه محل الغرض منه.
والظاهر صلاحية هذا الحديث للاحتجاج لاعتضاد بعض طرقه ببعض. فإذا علمت ما ذكرنا من دلالة هذه الأدلة على أن الوراثة المذكورة في الآية وراثة علم ودين لا وراثة مال فاعلم أن للعلماء في ذلك ثلاثة أقوال
الأول - هو ما ذكرنا. (يريد رحمه الله أنها وراثة العلم والدين لا المال)
والثاني - أنها وراثة مال.
والثالث: أنها وراثة مال بالنسبة له , وبالنسبة لآل يعقوب في قوله «ويرث من آل يعقوب» وراثة علم ودين.
وهذا اختيار ابن جرير الطبري. وقد ذكر من قال: إن وراثته لزكريا وراثة مال حديثاً عن النَّبي صلى الله عليه وسلم في ذلك أنه قال: «رحم الله زكريا ما كان عليه من ورثته» أي ماذا يضره إرث ورثته لماله. ومعلوم أن هذا لم يثبت عن النَّبي صلى الله عليه وسلم. والأرجح فيما يظهر لنا هو ما ذكرنا من أنها وراثة علم ودين؛ للأدلة التي ذكرنا وغيرها مما يدل على ذلك.
وفي قول الله تعالى (قَالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا) قال الشيخ رحمه الله:
فإن قيل: ما وجه استفهام زكريا في قوله {أنى يَكُونُ لِي غُلاَمٌ} مع علمه بقدرة الله تعالى على كل شيء.؟
فالجواب من ثلاثة أوجه قد ذكرناها في كتابنا (دفع إيهام الاضطراب عند آيات الكتاب) في سورة «آل عمران» وواحد منها فيه بُعدٌ وإن روى عن عكرمةَ والسديِّ وغيرهما.
الأول - أن استفهام زكريا استفهام استخبار واستعلام , لأنه لا يعلم هل الله يأتيه بالولد من زوجه العجوز على كبر سنهما على سبيل خرق العادة , أو يأمره بأن يتزوج شابة، أو يردهما شابين؟
فاستفهم عن الحقيقة ليعلهما , ولا إشكال في هذا، وهو أظهرها.
الثاني - أن استفهامه استفهام تعجب من كمال قدرة الله تعالى.
¥