تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

ولعل هذه النقطة تتوضح اكثر إذا ما استرجعنا ان هذا السياق نزل في الفترة المدنية على العكس من السياق الاول المكي النزول .. ، فهنا ايضا يذكر الخطاب في أوج الفترة المدنية – فترة نزول آيات الأحكام وتقوية أسس نشوء الدولة الإسلامية – بأهمية إعادة النظر وتجديد التقييم وربط ذروة الايمان بحالة التساؤل والشك الإيجابيتين والتي تسهم في تأصيل الايمان وتعميق جذوره، لا الإطاحة به كما قد يتصور البعض ..

ويستخدم الخطاب القرآني – نموذجا آخر – لتعميق فكرة التساؤل في ذهنية المتلقي قيد التكوين، وهو نموذج لا يقل مكانة عن ابراهيم –ولعل ذكره قد ورد اكثر مما ورد ابراهيم.

انه موسى عليه السلام – رسول آخر من أولى العزم وكليم الله – كما يلقبه الموروث الإسلامي- وصاحب شريعة وحفيد آخر من أحفاد الرسول الأول ابراهيم ..

فموسى سأل الله ما لا يسال عادة – وهو ان يراه (ولما جاء موسى لميقاتنا وكلمه ربه قال رب ارني انظر إليك قال لن تراني ولكن انظر إلى الجبل فان استقر مكانه فسوف تراني فتجل ربه للجبل جعله دكا وخر موسى صعقا فلما أفاق قال سبحانك ربى تبت اليك وانا أول المؤمنين) .. الأعراف 143. وهذا السؤال كانت له معطيات واقعية منسجمة مع الرؤية التجسيمية التي كان العبرانيون يؤمنون بها – أي ان سؤال موسى لم يكن ترفاً جدلياً بل محض انسجام مع الواقع ومتطلباته .. وفي كلتا الحالتين، -ابراهيم وموسى- ياتي الجواب الالهي بصورة عملية بليغة – الطير الذي يعود إلى الحياة والجبل الذي يندك – وهما مثالان على أجوبة إلهية لتساؤلات وشكوك انسانية على السنة الرسل .. والمثالان يعطياننا معا صورة رائعة لرؤية قرآنية مغايرة تماما. فالأسئلة والشكوك هنا لا تساور الكفار واعداء الرسل. بل تأتي على السنة الرسل وتجوب في أفكارهم وعقولهم، وهم لا يترددون في الإفصاح عنها لذاك الذي يعلم ما في الصدور – والعقول ..

.. والأجوبة الالهية لا تأتي بشكل صواعق تحرق حناجر الرسل الذين تجرءوا ونطقوا بالشك، أو بزلازل تبيد القرى وتفني عقب الرسل، كما عودتنا الرؤية التوراتية، كما انها لا تأتي باجوبة نظرية: حكم بليغة أو أمثال مأثورة لتسكت الأجوبة وتقمعها وتقيد العقل الذي صدرت عنه بأسوار التأويلات والمجازاة والتهويلات ..

بل تأتي الأجوبة لتوجه السؤال نحو الطبيعة: مظاهرها وظواهرها. اشكالها وقوانينها. الطير والجبل شكلان من اشكال الطبيعة جاء الوحي الالهي ليوجه السؤال الرسولى نحوهما، ففيهما الجواب .. وهنا – مرة أخرى- يكون للعقل الذي سأل دورٌ في الجواب عن هذا السؤال. ان السؤال الذي عذب ابراهيم وآرق موسى لن يجد جوابا مباشرا من قبل الوحى الالهي بطريقة تجعله مجرد شاهد سلبي بل سيأتي الجواب بطريقة تستدرج العقل نفسه في إبداع الجواب وتكوينه. تدربه على عمليات عقلية مؤسسة على المشاهدة والتجربة والاستنتاج، ليصل بنفسه إلى الجواب الذي طرحه ..

وهنا بالذات تتوضح أهمية (طمأنينة القلب) التي حازها ابراهيم و (ألاولوية على المؤمنين) التي حازها موسى .. ان هذه المرتبة لم تأتِ اعتباطا: لم تكن هبة إلهية دونما جهد بذله العقل الانساني، لقد كانت نتيجة لبحث وجهد وتأملات، ولم تكن – بالتأكيد – نتيجة لتسبيح أو استغفار لفظي أو تكرار لصلوات معينة طوال الوقت.

الشك، إذن، التساؤل، قد يفتح باب اليقين النهائي، لا الضياع والإلحاد كما يحاول البعض ان يوهمنا ..

وبالنسبة للخطاب القرآني، الذي عمل على تشكيل عقل الفرد المسلم وتكوين شخصيته، فان هذه المسالة كانت بالغة الاهمية والتأثير. لقد كرست هذه الرؤية مسالة التساؤل في عقل الفرد المسلم عبر المثل القرآني وبدون مبالغات في الخطابة.

انه التساؤل الذي منه بدأ الايمان الأول: إيمان الجد – ابراهيم.

* * *

.. ونحن أحق بالشك من ابراهيم!!

عبارة عادية، قد لا تلفت الكثير من الانتباه، إذا قالها أي واحد منا، من آلاف – بل ملايين الناس العاديين المتأرجحين في إيمانهم بين شك ويقين أو ايمان تقليدي متوارث .. لكن قائل العبارة ليس شخصا عاديا. انه الرسول (ص) نفسه. بل وخاتم الرسل والوريث النهائي لشريعة أبي الأنبياء، ابراهيم.

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير