تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

انه الرسول (ص): لا يبرر، لا يبحث عن تأويل يبرئ إبراهيم من تهمة الشك، لا يبحث في ألفاظ العربية عن معنى يخبأ خلفه شك ابراهيم. لا يخرج شك ابراهيم عن معناه الحقيقي ليحوله إلى مجاز آخر من المجازات العقيمة خالية المعاني. لا يستغفر له عن شكه. لا يعده خطيئة. ولا يصدر أحكاماً بناءً عليه ..

على العكس من ذلك: انه يعلن ببساطة، أحقية المسلمين بهذا الشك. أي ان هذا الشك، صار موضعا للتنافس والمسابقة بدلا من ان يكون تهمة مدفوعة، والمسلمون، ورثة ابراهيم الذي بدء إيمانه من التساؤل والشك في المكرسات التقليدية، احق بهذا الميراث من غيرهم. كنز الايمان ومفتاحه الأول: التساؤل. والشك الذي يجدد هذا الإيمان ويفتح له أفاقا أوسع ومديات ارحب: قد يكون اليقين من بينها، لكنه يظل ابدا يقينا متجددا بالشك الذي يتفاعل معه ويفاعله، يظل يقينا متصاعدا حيويا فاعلا .. ولولا الشك لتحول اليقين إلى مجرد موروث مكرس غبي وملئ بالضجر والرتابة .. لولا الشك الذي نحن أحق به من ابراهيم!!

ونستنتج من راوي الحديث: ابى هريرة، الذي اسلم قبل ثلاث سنوات فقط من وفاة الرسول (ص)، ان هذا الحديث لم يرد في فترة مبكرة من الفترة المدنية، ناهيك عن كون الآية التي تروى قصة الشك مدنية أصلا ..

أي ان الرسول – الذي أعلن احقيته واتباعه بالشك، لم يكن، عندما أعلن هذا الإعلان، في مرحلة مبكرة من عمره الرسولي وبدء نزول الوحي عليه. بل كان الوحي ينزل عليه منذ عشرين سنة – على اقل تقدير ..

انه الشك الإيجابي والتساؤل الفعال. ذاك الذي يصير جزء من طبيعة تفكير ومنهجية حياة. ذاك الذي يقتلع جذورا هشة ليزرع مكانها جذورا اعمق واقوى .. انه الشك الناضج: ذاك الذي يعني بالملاحظة والتجربة واعادة النظر والاستنتاج ..

انه شك الانبياء، الممتزج بيقين – لا شك فيه – في ان هذا الشك هو المحرك الأول للإيمان. للشريعة. للحياة كلها ..

بينما يتشدق آخرون – من اتباع خاتم الانبياء – بإيمان يتخيلونه نهائيا، ويتمسكون بنظرة واحدة لمعنى الايمان مرت عليها القرون دون ان يطرأ عليها شك يعيد لها الحياة، ويكفرون ويفسقون ويبدعون أشخاصا فضلوا بكل بساطة ان يعلنوا – مثل نبيهم – انهم احق بالشك من ابراهيم ..

والحديث، لهواة التشكيك، صحيح. بل ومتفق عليه (3192،4263 البخاري،151 مسلم، 4026 ابن ماجة، 8311 مسند أحمد،11050،11253 السنن الكبرى،6208 ابن حبان).

* * *

.. ولعله اعمق من مجرد الصدفة ان يرد (السؤال) في حادثة أخرى مهمة في سيرة ابراهيم كما اوردها الخطاب القراني: والتي ينفرد فيها مرة أخرى عن الرؤية التوراتية – فعندما يضع ابراهيم قومه في مواجهة مع خرافاتهم وتناقضاتهم وواقعهم – ويحطم الأوثان الا كبيرها .. يستغل السؤال كإستراتيجية لتأزيم الموقف المتأزم اصلا - (اذ قال لابيه وقومه ما هذه التماثيل التي انتم لها عاكفون. قالوا وجدنا اباءنا لها عابدين. قال لقد كنتم انتم وآباؤكم في ضلال مبين. قالوا اجئتنا بالحق ام انت من اللاعبين. قال بل ربكم رب السموات والأرض الذي فطرهن وانا على ذلكم من الشاهدين. وتالله لاكيدن أصنامكم بعد ان تولوا مدبرين فجعلهم جذاذا الا كبيرا لهم لعلهم إليه يرجعون. قالوا من فعل هذا بآلهتنا انه لمن الطامعين. قالوا سمعنا فتى يذكرهم يقال له ابراهيم. قالوا فآتوا به على أعين الناس لعلهم يشهدون. قالوا انت فعلت هذا بآلهتنا يا ابراهيم. قال بل فعله كبيرهم هذا فاسئسلوهم ان كانوا ينطقون. فرجعوا إلى أنفسهم فقالوا انكم انتم الظالمون. ثم نكسوا رؤوسهم لقد علمت ما هؤلاء ينطقون) .. الانبياء 51 - 65.

فإبراهيم هنا يستخدم السؤال كوسيلة لهدم الأوثان الحقيقية، اوثان الفكر التي تعشش داخل العقول – اكثر مما يفعل المعول الذي استخدمه لهدم التماثيل .. وبينما أبقي ابراهيم كبيرهم – (لعلهم إليه يرجعون) – في الخطة المرسومة، فإن (الرجوع) صار (إلى أنفسهم) – وبينما طلب منهم ابراهيم ان يسألوا الأوثان – فانهم سألوا أنفسهم – بالضبط كما كانت الخطة التي وضعها ابراهيم: ان يصير السؤال على ألسنتهم. على عقولهم. في أفكارهمورغم ان الخطة الإبراهيمية نجحت في زرع الشك في نفوس قومه، فإن أسس المجتمع وأركانه لا تتقوض بمجرد طرح السؤال .. فالدرب، أطول واصعب .. عله ينفجر ليطيح بأوهامهم ..

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير