تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

وأمّا ما نقله المزّي (تهذيب الكمال 4/ 7) من أن النسائي قال عنه: «ليس بثقة»، وهي عبارة جرح شديد من النسائي، ففوق كونه مخالفًا لما جاء في كتابي النسائي (السنن، والضعفاء)، فقد شكَّك الإمام الذهبي في صحّتها، حيث قال في السير (5/ 37 - 38): «وقال النسائي: ليس بثقة، كذا عندي، وصوابه: بقوي. فكأنها تصحّفت، فإن النسائيَّ لا يقول: ليس بثقة في رجل مُخَرَّج في كتابه».

وما أحسن كلام الذهبي هذا، خاصّةً مع إخراج النسائي له في المجتبى، مُبَوِّبًا على حديثه وحده (رقم 2043)، دون تعقُّبٍ منه بضعفه. وإنما تعقّب حديثًا آخر، كان يرى أنه لا يصح، في (السنن الكبرى)، كما نقلنا كلامه آنفًا.

وهذا التصرّف من النسائي يصلح أن يكون من نصيب من كان في آخر مراتب القبول؛ حيث إن الأصل فيمن أخرج له النسائي في المجتبى، دون إعلال لحديثه، أنه مقبول. وأمّا قوله عنه ضعيف، فلا يعارض تلك المنزلة، كما بيّنتُه في المرسل الخفي (1/ 309 - 311، 352)، من أن (ضعيف) وصفٌ قد يوصف به من كان في آخر مراتب القبول؛ لأن فيه ضعفًا موازنةً بالثقة. ويَكْثُر وصف المقبول بهذا الوصف إذا أخطأ، ويزدادُ عدد المقبولين الموصوفين بالضعف في أحكام من كان نَفَسُهُ حادّ، كالنسائي، على عَدَدِهم في أحكام الأئمة المعتدلين في ألفاظهم.

هذه هي أهم ألفاظ الجرح، وذكرنا أنّ من أسبابها رواية الكلبي التفسير عن أبي صالح، ثم دعواه أنه كذب في روايته.

كما أن من أسبابها أن أبا صالح لم يكن مبرّزًا في التفسير تبريز مفسّري عصره، من أمثال مجاهد وغيره من تلامذة ابن عباس. كما أنه لم يكن مبرّزًا في العلم كأئمة التابعين في زمنه، من أمثال الشعبي. كما أنه كانت له صنعة لم تكن من صنائع كبار العلماء، وهي تعليم الصبيان في الكُتّاب. فمِثْلُهُ إذا انتُقِصَ من علمه، أو استُخِفَّ بمعارفه، ومن أئمة التابعين = لا نستغرب ذلك. لكن لا يلزم من ذلك أن لا يكون له اعتباره في العلم، فإن البدر عند الشمس ينمحي نوره.

فإن «كان مجاهد ينهى عن تفسير أبي صالح» [كما في التاريخ الكبير للبخاري (2/ 144)، والكامل لابن عدي (2/ 70)، والجرح والتعديل (2/ 432)، لكنه جاء مطلقًا غير مقيد بالتفسير عند ابن أبي حاتم]؛ فإن لمجاهد (الذي فاق أئمة التابعين قاطبةً في التفسير) أن لا يراه أهلاً لذلك. خاصّةً أنه يُذكر عنه كثرة اعتماده على الصُّحُف، وأنه يأخذ عنها دون إكثار من الأخذ من العلماء، كما قال مغيرة بن مِقْسم: إنما أبو صالح صاحب الكلبي يُعَلّم الصبيان، (ويُضَعِّفُ تفسيره): قال: كُتُبٌ أصابها، (وتعجّب ممن يروي عنه). [أخرجه صالح بن الإمام أحمد كما في العلل رواية المروذي وغيره رقم 315، وأخرجه الفسوي في المعرفة والتاريخ 2/ 782 - 783، والعقيلي في الضعفاء 1/ 166]. فهذا الاستضعاف مقبول من إمام المفسّرين مجاهد، وهذا التعليل بالأخذ من الكتب له وجهه في زمنهم. أمّا اليوم وقبله بدهور، فلا يصح الاعتماد على هذه الأحكام لاستضعاف علم أبي صالح في التفسير. ولذلك نقل عنه تفسيره اثنان من جلّة التابعين، ورأياه أهلاً له، وهما إسماعيل بن عبدالرحمن السُّدِّي المفسِّر الكبير، وإسماعيل بن أبي خالد الأحمسي التابعيّ الثقة الحجّة الذي قال عنه العجلي: «كان لا يروي إلا عن ثقة». (التهذيب: 1/ 292). وأودع كثيرًا من أقواله في التفسير أئمة التفسير في كتبهم، كابن جرير وابن أبي حاتم، في حين أنهما تجنّبا تفسير الكلبي ومقاتل بن سليمان والواقدي وأمثالهم

وأمثالهم ([1])، بل لقد استعرضتُ كل ما رواه له ابن جرير في التفسير، فلم أجد فيه ما يُستنكر، بل عامة تفسيره متابعٌ عليه من أئمة التفسير في زمنه، كمجاهد وعكرمة وأمثالهما.

وفي هذا المعنى قِصّة الشعبي مع أبي صالح، فقد قال إسماعيل بن أبي خالد:

«رأيتُ الشعبي مرَّ بأبي صالح، فأخذ بأذنه فعركها، ثم قال: يا مَخْبَثَان، تفسر القرآن وأنت لا تقرأه». ومعنى قوله: «وأنت لا تقرأه»، أي: لا تحفظه؛ كما جاء في بعض ألفاظ الخبر. (العلل ومعرفة الرجال برواية المروذي وغيره: رقم 314، وتاريخ ابن معين برواية الدوري: رقم 3164، المعرفة والتاريخ للفسوي: 2/ 685، 785، وتاريخ ابن أبي خيثمة: رقم 2452، والضعفاء للعقيلي: 1/ 165، وتفسير الطبري: 1/ 86، والكامل لابن عدي: 2/ 70، وجاء عندهما بلفظ: وأنت لا تحسن تقرأ).

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير