تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

جرأة على غيب الله بغير نص صريح متواتر عن المعصوم، ولم يرد فى الكتاب إلا كلمة "ميزان"، وقد عرفت ما يمكننا أن نفهم منها لننتفع بما نعتقد، وما عدا ذلك فعلمه إلى الله سبحانه. وقد قالوا: إن منكر الميزان بالمعنى المعروف لا يكفر، إذا كان القائل به يحدد له لساناً وكفَّتين، مع أن البَشر اخترعوا من الموازين ما هو أتقن من ذلك وأضبط وأوفى ببيان الموزون. أفيأبى الحكيم الخبير إلا استعمال ذلك الميزان الخشن الناقص الذى هدى العلم عقول البَشر إلى ما هو أدق منه؟ أيأبى عالِمُ الغيب والشهادة أن يستعمل فى وزن المعانى والمعقولات إلا ذلك الميزان الذى اخترعه بعض البَشر قبل أن يبلغ بهم العلم ما بلغ بأهل العصر الحاضر وما سيبلغ بأهل العصور المقبلة؟ على أن جميع ما اخترع البَشر وما يخترعون مهما دقَّ ولَطُف، إنما هو معيار الأثقال الجسمانية، والأوزان المحسوسة، وهلا يكون الأليق بالمقام الإلهى أن يكون ميزان المعانى المعقولة لديه أسمى وأعلى من أن يكون على نمط ما يستعمله البَشر، مهما ارتقت المعارف وسمت بهم العلوم؟ وهل يليق بمن يخاف مقام ربه أن يجرؤ على القول بوجوب الاعتقاد بأن الميزان الذى يزن الله به الأعمال يوم القيامة هو الميزان الذى تستعمله القبائل التى لم تزل فى مهد الإنسانية الأُولى؟ .. ميزان ضعفاء العقول قصار الأنظار، الذين لا يعرفون قيمة للإيمان بالغيب، ولا لحياء العقل من الله، وإطراقه عن أن ينظر إلى ما تشامخ من غيوب الله تعالى علمه، وتعاظمت قدرته.

"عليك أيها المؤمن المطمئن إلى ما يخبر الله به أن توقن أن الله يزن الأعمال، ويميز لكل عمل مقداره. ولا تسل كيف يزن، ولا كيف يُقَدِّر، فهو أعلم بغيبه، والله يعلم وأنتم لا تعلمون".

* *

* معالجته للمسائل الاجتماعية:

ثم إنّا نجد الأستاذ الإمام لا يكاد يمر بآية من القرآن، يمكنه أن يأخذ منها علاجاً للأمراض الاجتماعية، إلا أفاض فى ذلك بما يُصَوِّر للقارئ خطر العِلَّة الاجتماعية التى يتكلم عنها، ويُرشده إلى وسيلة علاجها والتخلص منها، كل هذا يأخذه الأستاذ الإمام من القرآن الكريم، ثم يُلقى به على أسماع المسلمين وغير المسلمين، رجاء أن يعودوا إلى الصواب، ويثوبوا إلى الرشاد.

فمثلاً عندما تعرَّض لقوله تعالى فى الآية [3] من سورة العصر من التفسير المطوَّل لها: {وَتَوَاصَوْاْ بِ?لصَّبْرِ} .. نجده يقول: "والصبر مَلَكة في النفس يتيسر معها احتمال ما يشق احتماله، والرضا بما يكره فى سبيل الحق. وهو خُلُق يتعلق به بل يتوقف عليه كمال كل خلق، وما أُتِىَ الناس من شىء مثل ما أُتوا من فقج البصر أو ضعفه. كل أُمة ضعف البصر فى نفوس أفرادها. ضعف فيها كل شىء، وذهبت منها كل قوة، ولنضرب لذلك مثلاً: نقص العلم عند أمة من الأمم كالمسلمين اليوم، إذا دققت النظر وجدت السبب فيه ضعف الصبر، فإن مَن عرف باباً من أبواب العلم، لا يجد فى نفسه صبراً على التوسع فيه، والتعب فى تحقيق مسائله، وينام على فراش من التقليد هَيِّن لَيِّن، لا يكلفه مشقة، ولا يجشمه تعبأ، ويسلى نفسه عن كسله بتعظيم مَن سبقه، ولو كان عنده احترام حقيقى لسَلَفه، لاتخذهم أُسوة له فى عمله، فحذا حذوهم، وسلك مسلكهم، وكلَّف نفسه بعض ما حملوا أنفسهم عليه، واعتقد كما كانوا يعتقدون أنهم ليسوا بمعصومين.

"ثم هو إذا تعلَّم لا يجد صبراً على مشقة دعوة الناس إلى علم ما يعلم، وحملهم على عرفان ما يعرف، ولا جلداً على تحصيل الوسائل لنشر ما عنده، بل متى لاقى أول معارضة قبع فى بيته وترك الخلق للخالق كما يقولون.

"يجلس الطالب لدرسه سنة أو سنتين، ثم تعرضه مشقة التحصيل، فيترك الدرس أو يتساهل فى فهمه إلى حرفة أخرى يظنها أربح له، فينقطع عن الطلب، ويذهب فى الجهل كل مذهب، وكل هذا من ضعف الصبر.

"يبخل البخيل بماله، ويجهد نفسه فى جمعه وكنزه، وتعرض له وجوه البر فيعرض عنها، ولا يُنفق درهماً فى شىء منها، فيؤذى بذلك وطنه ومِلَّته، ويترك الشر والفقر يأكل قومه وأُمته، ولو نظرنا إلى ما قبض يده لوجدناه ضعف البصر، لما أُصيب بذلك المرض القاتل له ولأهله.

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير