تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

ثم قال الأستاذ الإمام بعد ذلك: "فإذا صح الجرى على هذا التفسير، فلا يُستبعد أن تكون الإشارة فى الآية أن الله تعالى لما خلق الأرض، ودبرها بما شاء من القوى الروحانية التى بها قوامها ونظامها، وجعل كل صنف من القوى مخصوصاً بنوع من أنواع المخلوقات، لا يتعداه ولا يتعدى ما حُدِّد له من الأثر الذى خُصَّ به.؟ خلق بعد ذلك الإنسان، وأعطاه قوة يكون بها مستعداً للتصف بجميع هذه القوى وتسخيرها فى عمارة الأرض، وعبَّر عن تسخير هذه القُوَى بالسجود الذى يُفيد معنى الخضوع والتسخير، وجعله بهذا الاستعداد الذى لا حد له، والتصرف الذى لم يُعط لغيره، خليفة الله فى أرضه، لأنه أكمل الموجودات فى الأرض، واستثنى من هذه القُوَى قوة واحدة، عبَّر عنها بإبليس، وهى القوى التى لزَّها الله بهذا العالَم لزا، وهى التى تميل بالمستعد للكمال، أو بالكامل إلى النقص، وتعارض مد الوجود لترده إلى العدم، أو تقطع سبيل البقاء، وتعود بالموجود إلى الفناء، أو التى تعارض فى اتباع الحق، وتصد عن عمل الخير، وتنازع الإنسان فى صرف قواه إلى المنافع والمصالح التى تتم بها خلافته، فيصل إلى مراتب الكمال الوجودى التى خُلِق مستعداً للوصول إليها. تلك القوة التى ضللت آثارها قوماً فزعموا أن فى العالَم إلهاً يسمى إله الشر، وما هى بإله، ولكنها محنة إله لا يعلم أسرار حكمته إلا هو".

قال: "ولو أن أنفسنا مالت إلى قبول هذا التأويل، لم تجد فى الدين ما يمنعها من ذلك، والعمدة على اطمئنان القلب، وركون النفس إلى ما أبصرت من الحق".

ثم يعود فى موضع آخر إلى تقرير التمثيل فى القصة فيقول: "وتقرير التمثيل فى القصة على هذا المذهب هكذا: أن إخبار الله الملائكة بجعل الإنسان خليفة فى الأرض هو عبارة عن تهيئة الأرض وقُوَى هذا العالَم وأوراحه، التى بها قوامه ونظامه، لوجود نوع من المخلوقات يتصرف فيها، فيكون به كمال الوجود فى هذه الأرض، وسؤال الملائكة عن جعل خليفة يُفْسِد فى الأرض لأنه يعمل باختياره، ويُعطَى استعداداً فى العلم والعمل لا حد لهما، هو تصوير لما فى استعداد الإنسان لذلك، وتمهيد لبيان أنه لا ينافى خلافته فى الأرض، وتعليم آدم الأسماء كلها بيان لاستعداد الإنسان لعلم كل شىء فى هذه الأرض، وانتفاعه به فى استعمارها، وعرض الأسماء على الملائكة، وسؤالهم عنها، وتنصلهم فى الجواب تصوير لكون الشعور الذى يُصاحب كل روح من الأرواح المدبرة للعوالم محدوداً لا يتعدى وظيفته، وسجود الملائكة لآدم عبارة عن تسخير هذه الأرواح والقُوَى له، ينتفع فى ترقية الكون بمعرفة سنن الله تعالى فى ذلك. وإباء إبليس واستكباره عن السجود تمثيل لعجز الإنسان عن إخضاع روح الشر، وإبطال داعية خواطر السوء، التى هى مثار التنازع والتخاصم والتعدى والإفساد فى الأرض، ولولا ذلك لجاء على الإنسان زمن يكون فيه أفراده كالملائكة بل أعظم، أو يخرجون عن كونهم من هذا النوع البَشرى".

والذى ينظر فى هذا التأويل الذى جوَّزه الشيخ، وفى سياق الآية وألفاظها وما فيها من محاورة ومقاولة، لا يسعه إلا أن يرده، وإن حاول قائله أن يروج له بجعله الأوامر التى وردت فى الآية من قبيل الأمر التكوينى، لا الأمر التكليفى.

* *

* موقفه من السحر:

ولقد كان من أثر إعطاء الأستاذ لنفسه الحرية الواسعة فى فهم القرآن الكريم، أنَّا نجده يخاف رأى جمهور أهل السُّنَّة، ويذهب إلى ما ذهب إليه المعتزلة، من أن السحر لا حقيقة له، ولذلك عند تفسيره لقوله تعالى فى الآية [4] من سورة الفلق: {وَمِن شَرِّ ?لنَّفَّاثَاتِ فِي ?لْعُقَدِ} .. نجده بعد أن يُفسِّر معنى النفث والعُقَد، يُفَسِّر المراد بالنفَّاثات فى الآية فيقول: "المراد بهم هنا هم النمامون، المقطِّعون لروابط الأُلفة، المُحرقون لها بما يلقو عليها من ضرام نمائمهم، وإنما جاءت العبارة كما فى الآية، لأن الله جَلَّ شأنه أراد أن يشبههم بأولئك السحرة المشعوذين، الذين إذا أرادوا أن يحلوا عقدة المحبة بين المرء وزوجه - مثلاً - فيما يُوهمون به العامة، عقدوا عقدة ثم نفثوا فيها وحَلُّوها، ليكون ذلك حلاً للعقد التى بين الزوجين. والنميمة تشبه أن تكون ضرباً من السحر، لأنها تحوِّل ما بين الصديقين من محبة إلى عداوة، بوسيلة خفية كاذبة، والنميمة تُضَلِّل وجدان الصديقين، كما يضلل الليل مَن يسير فيه

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير