تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

بظلمته، ولهذا ذكرها عقب ذكر الغاسق".

* * *

إنكاره لبعض الأحاديث الصحيحة:

ثم راح الشيخ - رحمه الله - يرد ما جاء من الروايات فى سحر الرسول صلى الله عليه وسلم فقال: "وقد رووا هنا أحاديث فى أن النبى صلى الله عليه وسلم سحره لبيد بين الأعصم، وأثَّرَ سحره فيه، حتى كان يُخيل له أنه يفعل الشىء وهو لا يفعله، أو يأتى شيئاً وهو لا يأتيه، وأن الله أنبأه بذلك، وأُخْرِجت مواد السحر من بئر، وعُوفِىَ - صلى الله عليه وسلم - مما كان نزل به من ذلك، ونزلت هذه السورة، ولا يخفى أن تأثير السحر فى نفسه عليه السلام حتى يصل به الأمر إلى أن يظن أن يفعل شيئاً وهو لا يفعله، ليس من قبيل تأثير الأمراض فى الأبدان، ولا من قبيل عروض السهو والنسيان فى بعض الأمور العادية، بل هو ماس بالعقل، آخذ بالروح، وهو مما يُصَدِّق قول المشركين فيه: {إِن تَتَّبِعُونَ إِلاَّ رَجُلاً مَّسْحُوراً}، وليس المسحور عندهم إلا مَن خولطَ فى عَقله، وخُيِّل له أن شيئاً يقع وهو لا يقع، فيُخيَّل إليه أنه يُوحَى إليه، ولا يُوحَى إليه، وقد قال كثير من المقلِّدين الذين لا يعقلون ما هى النبوة ولا ما يجب لها: إن الخبر بتأثير السحر فى النفس الشريفة قد صح فيلزم الاعتقاد به، وعدم التصديق به من بِدَع المبتدعين، لأنه ضرب من إنكار السحر، وقد جاء القرآن بصحة السحر، فانظر كيف ينقلب الدين الصحيح، والحق الصريح فى نظر المقلِّد بدعة - ونعوذ بالله - يحتج بالقرآن على ثبوت السحر، ويعرض عن القرآن فى نفيه السحر عنه - صلى الله ليه وسلم -، وعَدَّةُ من افتراء المشركين عليه، ويُؤوِّل فى هذه ولا يُؤوِّل فى تلك، مع أن الذى قصده المشركون ظاهر، لأنهم كانوا يقولون: إن الشيطان يلابسه عليه الصلاة والسلام، وملابسة الشيطان تُعرف بالسحر عندهم، وضرب من ضروبه، وهو بعينه أثر السحرالذى نُسب إلى لبيد، فإنه خولط فى عقله وإدراكه فى زعمهم.

"والذى يجب اعتقاده أن القرآن مقطوع به، وأنه كتاب الله بالتواتر عن المعصوم - صلى الله عليه وسلم -، فهو الذى يجب الاعتقاد بما يُثبته، وعدم الاعتقاد بما يُنفيه، وقد جاء بنفى السحر عنه عليه السلام، حيث نسب القول بإثبات حصول السحر له إلى المشركين أعدائه، ووبخهم على زعمهم هذا، فإذن هو ليس بمسحور قطعاً. وأما الحديث - فعلى فرض صحته - هو آحاد، والآحاد لا يؤخذ بها فى باب العقائد، وعصمة النبى من تأثير السحر فى عقله عقيدة من العقائد، لا يؤخذ فى نفيها عنه إلا باليقين، ولا يجوز أن يؤخذ فيها الظن والمظنون، عل أن الحديث الذى يصل إلينا من طريق الآحاد، إنما يحصل الظن عند مَن صح عنده، أما مَن قامت له الأدلة على أنه غير صحيح، فلا تقوم به عليه حُجَّة، وعلى أى حال، فلنا - بل علينا - أن نُفوِّض الأمر فى الحديث. ولا نُحَكِّمه فى عقيدتنا، ونأخذ بنص الكتاب وبدليل العقل، فإنه إذا خولط النبى فى عقله - كما زعموا - جاز عليه أن يظن أنه بَلَّغ شيئاً وهو لم يُبَلِّغه، أو أن شيئاً نزل عليه وهو لم ينزل عليه، والأمر ظاهر لا يحتاج إلى بيان .. " إلخ.

وهذا الحديث الذى يرده الأستاذ الإمام رواه البخارى وغيره من أصحاب الكتب الصحيحة، وليس من وراء صحته ما يخل بمقام النبوة، فإن السحر الذى أُصيب به عليه الصلاة والسلام كان من قبيل الأمراض التى تعرض للبدن بدون أن تؤثر على شئ من العقل، وقد قالوا إن ما فعله لبيد بن الأعصم بالنبى صلى الله عليه وسلم من السحر لا يعدو أن يكون نوعاً من أنواع العقد عن النساء، وهو الذى يسمونه "رباطاً" فكان يخيل إليه أن عنده قدرة على إتيان إحدى نسائه، فإذا ما هَمَّ بحاجته عجز عن ذلك. أما السحر الذى نُفِىَ عنه - صلى الله عليه وسلم - فمراد به الجنون، وهو مخل ولا شك بمقام النبوة، وقد قالوا: {ي?أَيُّهَا ?لَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ ?لذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ}.

ثم إن الحديث رواية البخارى وغيره من كتب الصحيح، ولكن الأستاذ الإمام ومَن على طريقته لا يُفَرِّقون بين رواية البخارى وغيره، فلا مانع عندهم من عدم صحة ما يرويه البخارى، كما أنه - لو صح فى نظرهم - فهو لا يعدو أن يكون خبر آحاد لا يثبت به إلا الظن، وهذا فى نظرنا هدم للجانب الأكبر من السُّنَّة التى هى بالنسبة للكتاب فى منزلة المبيِّن من المبيَّن، وقد قالوا: إن البيان يلتحق بالمبيّن، وليس هذا الحديث وحده هو الذى يُضَعِّفه الشيخ، أو يتخلص منه بأنه رواية آحاد، بل هناك كثرة من الأحاديث نالها هذا الحكم القاسى، فمن ذلك أيضاً حديث الشيخين: "كل بنى آدم يمسه الشيطان يوم ولدته أُمه إلا مريم وابنها" .. فإنه قال فيه: "إذا صح الحديث فهو من قبيل التمثيل لا من باب الحقيقة".

فهو لا يثق بصحة الحديث رغم رواية الشيخين له، ثم يتخلص من إرادة الحقيقة - على فرض الصحة، بجعل الحديث من باب التمثيل، وهو ركون إلى مذهب المعتزلة. الذين يرون أن الشيطان لا تَسَلُّط له على الإنسان إلا بالوسوسة والإغواء فقط.

وبعد .. فهذا هو إنتاج الأستاذ الإمام فى التفسير، وهذا هو مسلكه ومنهجه فيه، ولعلِّى أكون قد أرضيت الحقيقة، ولم أتجن على الشيخ، أو أتهمه بما هو منه برئ.

* * *

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير