ولعل هذا الذي ذكره أمر عرفي حادث في الإسلام ولهذا قال القلقشندي في صبح الأعشى: "واعلم أن الأولين أكثر ما كانوا يعظمون بعضهم بعضا في المخاطبات ونحوها بالكنى، ويرون ذلك في غاية الرفعة ونهاية التعظيم، حتى في الخلفاء والملوك فيقال: أبو فلان فلان، وبالغوا في ذلك حتى كنوا من اسمه في الأصل كنية فقالوا في أبي بكر أبو المناقب اعتناء بشأن الكنية، وربما وقف الأمر في الزمن القديم في تكنية خاصة الخليفة وأمرائه على ما يكنيه به الخليفة، فيكون له في الرفعة منتهى ينتهي إليه ثم رجع أمرهم بعد ذلك إلى التعظيم بالألقاب.
على أن التعظيم بالكنى باق في الخلفاء والملوك فمن دونهم إلى الان على ما ستقف عليه في مواضعه إن شاء الله تعالى وكذلك القضاة والعلماء بخلاف الأمراء والجند والكتاب فإنه لا عناية لهم بالتكني ثم لا فرق في جواز التكني بين الرجال والنساء .. ".
ولعل الذي يظهر في وجه تكنية عبدالعزى في آية سورة المسد قرب ما اختاره الزمخشري وتبعه عليه غير واحد من المفسرين، أما القول الرابع ففيه ضعف ظاهر.
وذلك لأسباب منها:
- ما روي ونقل في الكنى والنداء بها، كنحو ما يروى عن عمر -رضي الله عنه-: "أشيعوا الكنى، فإنها منبهة"، أو فإنها سنة، ولم أقف على سند له ولكن إيراد أهل العلم له بلا نكير يدل على المراد بصرف النظر عن مسألة الثبوت. وقد روي عن ابن عمر بسند ساقط حديثاً مرفوعاً: "بادروا أولادكم بالكنى لا تغلب عليهم الألقاب" قال ابن حجر: "والصحيح عن ابن عمر قوله". ولاشك أن النبي صلى الله عليه وسلم كنى أقواماً صغاراً كأبي عمير وكباراً ما أكثرهم.
- ذكر غير واحد من أهل اللغة وفحولها أن التكنية إعظام وإكرام. قال ابن رشيق في العمدة: "ومن الكناية اشتقاق الكنية؛ لأنك تكني عن الرجل بالأبوة، فتقول: أبو فلان، باسم ابنه، أو ما تعورف في مثله، أو ما اختار لنفسه؛ تعظيماً له وتفخيماً، وتقول ذلك للصبي على جهة التفاؤل بأن يعيش ويكون له ولد"، وقال المبرد من قبله: "والضرب الثالث من الكناية: التفخيم والتعظيمُ، ومنه اشتقت الكنيةُ وهو أن يعظم الرجل أن يدعى باسمه، ووقعت في الكلام على ضربين: وقعت في الصبيِّ على جهة التفاؤل؛ بأن يكون له ولدٌ ويدعى ولده كنايةً عن أسمه، وفي الكبير أن ينادى باسم ولده صيانةً لاسمهِ؛ وإنما يقال: كنيَ عن كذا بكذا، أي تركَ كذا إىل كذا، لبعض ما ذكرنا".
- تشهد نصوص الشعراء على أن التكنية إكرام، كقول القائل -وقد نقله الزمخشري في ربيع الأبرار وغيره:
أكنيه حين أناديه لأكرمه * ولا ألقبه والسوأة اللقب
ولايفهم من هذا أن اللقب سوأة بإطلاق بل هو عندهم محل تفصيل ليس هذا موضوعه، وإن كان هو الأغلب، بيد أن أول من لقب في الإسلام أبو بكر الصديق رضي الله عنه بعتيق وبالصديق ولم يكن أي ألقابه سوأة بل قيل عتيق لعتق وجه وجماله، وقيل غير ذلك.
- كثير من أقوال الشعراء يفهم منها أن التكنية تعظيم، ومن ذلك: كلمة البحتري:
يتشاغفن بالصغير المسمى * موبصات وبالكبير المكنى
وقول ابن الرومي:
بكت شجونها الدنيا فلما تبينت * مكانك منها استبشرت وتثنت
وكان ضئيلاً شخصها فتطاولت * وكانت تسمى ذلة فتكنت
- يشهد له كذلك شيء من قصص العرب وأخبارهم.
وجميع ما سبق نقل الزمخشري في ربيع الأبرار طرفاً منه ثم قال: "والذي دعاهم إلى التكنية الإجلال عن التصريح بالاسم بالكناية عنه، ونظيره العدول عن فعل إلى فعل في نحو قوله تعالى: وغيض الماء وقضى الأمر، وقول الكتاب أمر بكذا ونهي عن كذا".
وهذا مشاهد معروف الآن عن بعض من لبسن ثوب الحياء، وتدثرن بدثار الأدب، فلا تراها تنادي زوجها أو من تجل باسمه ولكن تعدل عنه إلى التكنية أو نحوها.
بل عهدت من بعض المشايخ الأفاضل المربين المؤدبين من ذلك أمراً عجباً فلا يكدا ينادي أقل من معه إن عرف له كنية -وإن صغرت سنه- بغيرها، ولمست أثر ذلك.
- قال ابن حجر في الفتح: "قال العلماء: كانوا يكنون الصبي تفاؤلا بأنه سيعيش حتى يولد له، وللأمن من التلقيب، لأن الغالب أن من يذكر شخصا فيعظمه أن لا يذكره باسمه الخاص به فإذا كانت له كنية أمن من تلقيبه، ولهذا قال قائلهم: بادروا أبناءكم بالكنى قبل أن تغلب عليها الألقاب، وقالوا: الكنية للعرب كاللقب للعجم، ومن ثم كره للشخص أن يكني نفسه إلا إن قصد التعريف".
¥