تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

تنافر، ولا تصادم بينهما، بخلاف ما يدعيه الغربيون من تصارع مع قوى الطبيعة، وسعي حثيت لقهرها، وما يترتب عن هذا المفهوم الخاطئ لتصور العلاقة بين الإنسان والكون من حوله، من اختلال في ناموس الحياة، مما يجعل الإنسان يرتكس في الحمأة الوبيئة ليذوق وبال أمره، وعاقبته أنكى وأمر. وقد عبر سيد قطب - رحمه الله - عن هذا الأساس - في أسلوب مشرق، ودقة فكرية متناهية تعبر عما تأصل في نفسه من موهبة أدبية رفيعة، وفكر مبدع، وروح مؤمنة، وعقل متقد - بقوله: «إن المرحلة التي يقطعها (الإنسان) على ظهر هذا الكوكب إنما هي رحلة في كون حي مأنوس، وعالم صديق ودود، كون ذي روح تتلقى وتستجيب، وتتجه إلى الخالق الواحد الذي تتجه إليه روح المؤمن في خشوع {ولله يسجد من في السموات والأرض طوعا وكرها وظلالهم بالغدو والآصال} .. {تسبح له السماوات السبع، والأرض ومن فيهن، وإن من شيء إلا يسبح بحمده}. أي راحة وأي سعة وأي أنس، وأي ثقة يفيضها على القلب هذا التصور الشامل الكامل الفسيح الصحيح؟».

4 - أسس تتعلق بواقع البشرية في العصر الحديث.

وركز سيد قطب فيها على مظاهر البعد عن منهاج الله، واتباع الهوى أوالشيطان، وانتقد فيها تضخيم الجانب المادي على الجانب الروحي في الحياة، مما جعل الإنسان يعيش حياة الضنك والضيق، والشقاء، رغم ما حققه من تقدم مادي - لم تعهد البشرية له مثيلا عبر تاريخها المديد- يوفر له أسباب الراحة والسعادة المادية يمكننا أن نجمل هذه الأسس في أساسين هما:

أ- المجتمع الإنساني يعيش اليوم في جاهلية فلسفية بغيضة حادت به عن المنهاج الذي ارتضاه الله لخلقه حتى يتحقق مفهوم الاستخلاف، وقد أشار سيد قطب إلى هذا الأساس في مقدمة تفسيره، حين قال: «وعشت - في ظلال القرآن- أنظر من علو إلى الجاهلية التي تموج في الأرض، وإلى اهتمامات أهلها الصغيرة الهزيلة، أنظر إلى تعاجب أهل هذه الجاهلية بما لديهم من معرفة الأطفال، وتصورات الأطفال واهتمامات الأطفال، كما ينظر الكبير إلى عبث الأطفال، ومحاولات الأطفال، ولثغة الأطفال، وأعجب ما بال هذا الناس؟! ما بالهم يرتكسون في الحمأة الوبيئة، ولا يسمعون النداء العلوي الجليل، النداء الذي يرفع العمر ويباركه ويزكيه؟».

ب- إن تنحية الإسلام عن واقع الحياة هو أكبر مصيبة عرفتها البشرية، وكان ذلك إيذانا بتمزقها نفسيا، وانحلالها اجتماعيا، فعاشت معيشة ضنكا لا تعرف فيها إلا الشقاوة والحيرة والحروب والكوارث، فكانت هذه التنحية «نكبة قاصمة في حياتها، لم تعرف لها البشرية نظيرا في كل ما ألم بها من نكبات. لقد كان الإسلام قد تسلم القيادة بعدما فسدت الأرض، وأسنت الحياة، وتعفنت القيادات، وذاقت البشرية الويلات من القيادات المتعفنة، و {ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس}. تسلم الإسلام القيادة بهذا القرآن، وبالتصور الجديد الذي جاء به، وبالشريعة المستمدة من هذا التصور، فكان ذلك مولدا جديدا للإنسان أعظم في حقيقته من المولد الذي كانت به نشأته، لقد أنشأ هذا القرآن للبشرية تصورا جديدا عن الوجود والحياة والقيم، والنظم، كما حقق لها واقعا اجتماعيا فريدا، كان يعز على خيالها تصوره مجرد تصور، قبل أن ينشئه لها القرآن إنشاء.

نعم! لقد كان هذا الواقع من النظافة والجمال، والعظمة والارتفاع، والبساطة واليسر، والواقعية الإيجابية، والتوازن والتناسق، بحيث لا يخطر للبشرية على بال لولا أن الله أراده لها، وحققه في حياتها في ظلال القرآن، ومنهح القرآن، وشريعة القرآن. ثم وقعت تلك النكبة القاصمة ونحي الإسلام عن القيادة، نحي عنها لتتولاها الجاهلية مرة أخرى، في صورة من صورها الكثيرة، صورة التفكير المادي الذي تتعاجب به البشرية اليوم، كما يتعاجب الأطفال بالثوب المبرقش، واللعبة الزاهية الألوان!».

وهذه الأسس الفكرية لتفسير في "ظلال القرآن" يمكن إرجاعها جميعا إلى أصل واحد وهو الحاكمية، والعبودية المطلقة لله رب العالمين، وسيد قطب - رحمه الله - لم يصرح بذلك في تفسيره. ولكننا نستخلصه من قوله إن القيم الإيمانية والقوانين الطبيعية، كلها من سنن الله تعالى، وأن الشريعة التي ارتضاها الحق سبحانه لعباده، ما هي إلا جزء من القانون الكلي في الكون، ومن ثم يصبح إعلان الحاكمية والعبودية لله وحده وسيلة وغاية. فبها تتحقق السعادة، وإدراكها هو السعادة، حيث يكون الإنسان منسجما مع نفسه، ومع اخيه الإنسان، ومع الكون من حوله.

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير