قلت: ولو كان الوليد فاسقا لما ترك النبي صلى الله عليه وسلم تعنيفه واستتابته فإنه روى أنه لم يزد على قوله له " التبيين من الله والعجلة من الشيطان " إذ كان تعجيل الوليد الرجوع عجلة. وقد كان خروج القوم للتعرض إلى الوليد بتلك الهيئة مثار ظنه حقا إذ لم يكن المعروف خروج القبائل لتلقي السعاة. وأنا أحسب أن عملهم كان حيلة من كبرائهم على انصراف الوليد عن الدخول في حيهم تعيرا منهم في نظر عامتهم من أن يدخل عدو لهم إلى ديارهم ويتولى قبض صدقاتهم فتعيرهم أعداؤهم بذلك يمتعض منهم دهماؤهم ولذلك ذهبوا بصدقاتهم بأنفسهم في رواية أو جاؤوا معتذرين قبل مجيء خالد بن الوليد إليهم في رواية أخرى
صلى الله عليه وسلم عليه الصلاة والسلام ويؤيد هذا ما جاء في بعض روايات هذا الخبر أن الوليد. أعلم بخروج القوم إليه وسمع بذلك فلعل ذلك الإعلام موعز به إليه ليخاف فيرجع. وقد اتفق من ترجموا للوليد بن عقبة على أنه كان شجاعا جوادا وكان ذا خلق ومروءة
واعلم أن جمهور أهل السنة على اعتبار أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم عدولا وإن كل من رأى النبي صلى الله عليه وسلم وآمن به فهو من أصحابه. وزاد بعضهم شرط أن يروي عنه أو يلازمه ومال إليه المازري. قال في أماليه في أصول الفقه " ولسنا نعني بأصحاب النبي كل من رآه أو زاره لماما إنما يريد أصحابه الذين لازموه وعززوه ونصروه واتبعوا النور الذي أنزل معه وأولئك هم المفلحون شهد الله لهم بالفلاح " اه
وإنما تلقف هذه الأخبار الناقمون على عثمان إذ كان من عداد مناقمهم الباطلة أنه أولى الوليد بن عقبة إمارة الكوفة فحملوا الآية على غير وجهها وألصقوا بالوليد وصف الفاسق وحاشاه منه لتكون ولايته الإمارة باطلا. وعلى تسليم أن تكون الآية إشارة إلى فاسق معين فلماذا لا يحمل على إرادة الذي أعلم الوليد بأن القوم خرجوا له ليصدوه عن الوصول الى ديارهم قصدا لإرجاعه
وفي بعض الروايات أن خالدا وصل إلى ديار بني المصطلق. وفي بعضها أن بني المصطلق وردوا المدينة معتذرين واتفقت الروايات على أن بين بني المصطلق وبين الوليد بن عقبة شحناء من عهد الجاهلية
وفي الرواية أنهم اعتذروا للتسلح بقصد إكرام ضيفهم. وفي السيرة الحلبية أنهم قالوا: خشينا أن يبادئنا بالذي كان بيننا من شحناء. وهذه الآية أصل في الشهادة والرواية من وجوب البحث عن دخيلة من جهل حال تقواه. وقد قال عمر ابن الخطاب لا يؤسر أحد في الإسلام بغير العدول وهي أيضا أصل عظيم في تصرفات ولاة الأمور وفي تعامل الناس بعضهم مع بعض من عدم الإصغاء إلى كل ما يروى ويخبر به
والخطاب ب (يا أيها الذين آمنوا) مراد به النبي صلى الله عليه وسلم ومن معه ويشمل الوليد بن عقبة إذ صدق من أخبره بأن بني المصطلق يريد له سوءا ومن يأتي من حكام المؤمنين وأمرائهم لأن المقصود منه تشريع تعديل من لا يعرف بالصدق والعدالة
ومجيء حرف (إن) في هذا الشرط يومئ إلى أنه مما ينبغي أن لا يقع إلا نادرا
والتبيين: قوة الإبانة وهو متعد إلى مفعول بمعنى أبان أي تأملوا وأبينوا. والمفعول محذوف دل عليه قوله بنبإ أي تبينوا ما جاء به وإبانة كل شيء بحسبها
والأمر بالتبيين أصل عظيم في وجوب التثبت في القضاء وأن لا يتتبع الحاكم القيل والقال ولا ينصاع إلى الجولان في الخواطر من الظنون والأوهام
ومعنى (فتبينوا) تبينوا الحق أي من غير جهة ذلك الفاسق. فخبر الفاسق يكون داعيا إلى التتبع والتثبت يصلح لأن يكون مستندا للحكم بحال من الأحوال وقد قال عمر بن الخطاب " لا يؤسر أحد في الإسلام بغير العدول "
وإنما كان الفاسق معرضا خبره للريبة والاختلاق لأن الفاسق ضعيف الوازع الديني في نفسه وضعف الوازع يجرئه على الاستخفاف بالمحظور وبما يخبر به في شهادة أو خبر يترتب عليهما إضرار بالغير أو بالصالح العام ويقوي جرأته على ذلك دوما إذا لم يتب ويندم على ما صدر منه ويقلع عن مثله
والإشراك أشد في ذلك الاجتراء لقلة مراعاة الوازع في أصول الإشراك
وتنكير (فاسق) و (نبإ) في سياق الشرط يفيد العموم في الفساق بأي فسق اتصفوا وفي الأنباء كيف كانت كأنه قيل: أي فاسق جاءكم بأي نبإ فتوقفوا فيه وتطلبوا بيان الأمر وانكشافه.
قال المحقق لتفسير ابن كثير - (ج 7 / ص 372) سامي بن محمد سلامة كلاما جميلا أنقله بنصه
¥