الثالثة: وأما الطائفة الثالثة فقد ذهبت إلى التفصيل، فقالوا إذا فسر التابعي القرآن الكريم برأيه فرأيه ليس حجة على من خالفه، وأما إذا أجمعوا على رأي ما فيكون قولهم حجة وهو ما ذهب إليه ابن تيمية -رحمه الله - "وقال شعبة بن الحجاج وغيره، (أقوال التابعين في الفروع ليست حجة، فكيف تكون حجة في التفسير) يعني أنها لا تكون حجة على غيرهم ممن خالفهم، وهذا صحيح. أما إذا اجتمعوا على الشيء فلا يرتاب من كونه حجة على غيرهم ممن خالفهم، وهذا صحيح. أما إذا اجتمعوا على الشيء فلا يرتاب من كونه حجة، فإن اختلفوا فلا يكون قول بعضهم حجة على بعض ولا على من بعدهم، ويرجع في ذلك إلى لغة القرآن أو عموم لغة العرب، أو أقوال الصحابة في ذلك".
وتفسير التابعي رغم اعتماده أساسا على الرواية والنقل، يمكن أن يتطرق إليه النقد من جهات ثلاث:
1 - لم يعاصر التابعون الرسول -صلى الله عليه وسلم- مما يرجح أن ما وصلنا عنهم هو من قبيل آرائهم واجتهاداتهم الشخصية، مما يجعله لا يرقى إلى قوة ومرتبة المسند إلى الرسول -صلى الله عليه وسلم-.
2 - يندر فيه الإسناد الصحيح مما يقوي الشك فيه، كما أن الصحيح فيه قد اختلط بغير الصحيح بسبب حذف الإسناد.
3 - اشتماله على الإسرائيليات التي تسربت إليهم عن طريق أهل الكتاب أو زنادقة الشعوب الداخلية، مما يشوه -في عمومه- صفاء العقيدة،
وواقعية المنهاج الإسلامي في الحياة. ولعل ذلك هو ما جعل ابن تيمية -رحمه الله - رغم ميله الشديد إلى الأخذ بالمأثور والإبتعاد ما أمكن عن الرأي - لا يأخذ بقول التابعي مطلقا، بل وجدناه يميل إلى التفصيل كما سبق أن بينا.
4 - ما لفقه أصحاب المذاهب المتطرفة لإعطاء وجودهم شرعية.
ولا يفهم مما سبق أنه يمكننا أن نتجاوز كل ما قاله التابعون إلى الإجتهاد والرأي بل لا بد من الإستئناس بأقوالهم، خاصة ونحن نعلم أنهم أدرى وأعلم منا في شتى المجالات التي تعتبر أساسا في فهم النص القرآني، كاللغة وعلومها وعلوم القرآن، ثم ما يمتازون به من صفات نفسية عالية، وما يتمتعون به من أخلاق ربانية تتمثل في الصفاء والزهد، والورع، والتقوى والإخلاص، مما يجعلهم عاملين بما علموا. وقد وعد الله سبحانه من كان ذلك شأنه بأن يعلمه مالم يعلم.
خامسا: اللغة وعلومها:
من البديهي أن تكون اللغة العربية وعلومها من المصادر الأساسية في تفسير الخطاب القرآني، ذلك أن القرآن الكريم قد أنزل إلى العرب خاصة، وإلى الناس عامة، ومن ثم فهو يخاطبهم بلغتهم ويتحداهم بأن يأتوا بمثله، فكان ذلك تأكيدا لإعجاز بيانه، وسمو بلاغته.
وقد اشترط العلماء بالتفسير الإحاطة باللغة العربية وعلومها في كل من يريد اقتحام باب التفسير، وقد نص على ذلك الشيخ أبو زهرة في كتابه "المعجزة الكبرى"، حيث يقول:"ولا شك أن اللغة هي الأساس الأول لكل هذه المصادر. ولا نقصد باللغة ما تومىء إليه المعاجم فقط، فإن تفسير النبي -صلى الله عليه وسلم- لا يمكن أن يكون مخالفا للعربية ومعانيها، لأنه العربي الذي ينطق بجوامع الكلم، وليس في الكلام العربي ما يكون أصدق مصدر للإستعمال العربي الصحيح من أقوال النبي - صلى الله عليه وسلم- ".
وهذا المنهج قد سلكه الصحابة رضوان الله عليهم في تفسير القرآن الكريم، فكانوا كلما أشكل عليهم معنى آية كريمة راجعوا أهل الفصاحة والبلاغة من العرب الخلص فكانوا يحلون إشكالها بتفسيرها لغويا والإستشهاد على ذلك بما جاء في شعرهم "فهذا عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- يسأل أصحابه عن معنى قوله تعالى في الآية 47 من سورة النحل {أو يأخذهم على تخوف} فيقول له شيخ من هذيل: هذه لغتنا. التخوف: التنقص. فيقول له عمر: هل تعرف العرب ذلك في أشعارها؟ فيقول له نعم، ويروي قول الشاعر:
تخوف الرحل منها تامكا قردا كما تخوف عود النبعة السفن
فيقول عمر رضي الله عنه لأصحابه: عليكم بديوانكم لا تضلوا. قالوا: وما ديواننا؟ قال: شعر الجاهلية، فإن فيه تفسير كتابكم، ومعاني كلامكم ".
¥