وقد اشتهر ابن عباس بالرجوع إلى الشعر القديم عند تفسيره للذكر الحكيم مما يدل على معرفته الواسعة بلغة العرب وإلمامه الكبير بغريبها. ومن ذلك ما يروى عنه في تفسير قوله تعالى: {وابتغوا إليه الوسيلة} (1)، فقال الوسيلة الحاجة، واستدل على ذلك ببيت من شعر عنترة:
إن الرجال لهم إليك وسيلة إن يأخذوك تكحلي وتخضبي
كما أننا نجد علماء المسلمين ينصون على أن من معايير الحكم على تفاسير المفسرين موافقتها لما تعارفت عليه العرب في لغاتها، فمن تجاوز دلالتها ومعانيها فهو مجحف، وتفسيره مغرض. وقد نقل صاحب الإتقان عن الزركشي أن من أهم شروط المفسر إحاطته باللغة وعلومها، كما عرض آراء العلماء في هذا المصدر فوجدناهم يقررونه كأساس لأي تفسير سليم، باستثناء الإمام أحمد في إحدى الروايات المأثورة عنه فإنه يكره الإستشهاد على معنى من القرآن الكريم ببيت من الشعر: "إن القرآن نزل بلسان عربي، وهذا قد ذكره جماعة، ونص عليه أحمد في مواضع، لكن نقل الفضل بن زياد عنه أنه سئل عن القرآن يمثل له بيت من الشعر. فقال: ما يعجبني، فقيل ظاهره المنع، ولهذا قال بعضهم في جواز تفسير القرآن بمقتضى اللغة روايتان عن أحمد. وقيل الكراهة تحمل على صرف الآية عن ظاهرها إلى معان خارجة محتملة يدل عليها القليل من كلام العرب ولا يوجد غالبا إلا في الشعر ونحوه، ويكون المتبادر خلافها، وروى البيهقي في الشعب عن مالك قال: لا أوتى برجل غير عالم بلغة العرب يفسر كتاب الله إلى جعلته نكالا ".
بل إن العلماء بالتفسير وعلومه لا يجوزون تفسير القرآن إلا لمن كان محيطا إحاطة شافية كافية باللغة وعلومها، وقد نص على ذلك كثير من العلماء، من ذلك ما أورده السيوطي في كتابه "الإتقان في علوم القرآن ": "ومنهم من قال يجوز تفسيره لمن كان جامعا للعلوم التي يحتاج المفسر إليها وهي خمسة عشر علما:
أحدهما: اللغة، لأن بها يعرف شرح مفردات الألفاظ ومدلولاتها بحسب الوضع، قال مجاهد: لا يحل لأحد يؤمن بالله واليوم الآخر أن يتكلم في كتاب الله إذا لم يكن عالما بلغات العرب " وتقدم قول الإمام مالك في ذلك، ولا يكفي في حقه معرفة اليسير منها، فقد يكون اللفظ مشتركا وهو يعلم أحد المعنيين والمراد الآخر.
الثاني: النحو، لأن المعنى يتغير ويختلف باختلاف الإعراب فلا بد من اعتباره، أخرج أبو عبيد عن الحسن أنه سئل عن الرجل يتعلم العربية يلتمس بها النطق ويقيم بها قراءته، فقال حسن فتعلمها، فإن الرجل يقرأ الآية فيعيا بوجهها فيهلك فيها.
الثالث: التصريف، لأن به تعرف الأبنية والصيع. قال ابن فارس: ومن فاته علمه فاته المعظم، لأن "وجد " مثلا كلمة مبهمة فإذا صرفناها اتضحت بمصادرها ...
الرابع: الإشتقاق، لأن الإسم إذا كان اشتقاقه من مادتين مختلفتين اختلف باختلافهما كالمسيح هل هو من السياحة أو المسح.
الخامس والسادس والسابع: المعاني والبيان والبديع، لأنه يعرف بالأول خواص تراكيب الكلام من جهة إفادتها المعنى، وبالثاني خواصها من حيث اختلافها بحسب وضوح الدلالة وخفائها، وبالثالث وجوه تحسين الكلام، وهذه العلوم الثلاثة هي علوم البلاغة وهي من أعظم أركان المفسر".
مما سبق يتضح لنا أن اللغة وعلومها مصدر أساسي في تفسير القرآن وأي تجاهل له يفضي -لا محالة - إلى التفسيرات الباطلة التي صنفها العلماء بالتفسير ضمن التفسير بالتأويل المذموم. أو التفسير على المذهب.
وفي ختام حديثنا عن مصادر التفسير عند أهل السنة نشير إلى أن المنهج التفسيري الذي وضعوه لا يكفي فيه أن تكون هذه المصادرة الخمسة هي عمدته، بل لا بد من احترام التسلسل الذي وضعوه بحيث لا نتجاوز المصدر الأول إلى المصدر الذي يليه إلى بعد التأكد بأنه لا يوجد له تفسير فيه. وفي ذلك يقول ابن تيمية: "فإن قال قائل: فما أحسن طرق التفسير؟ فالجواب: أن أصح الطرق في ذلك أن يفسر القرآن بالقرآن، فما أجمل في مكان فإنه قد فسر في موضع آخر، وما اختصر في مكان فقد بسط في موضع آخر.
¥