معبود هو الله، وأن أحدا ما عبد غير الله قط، وهذا من أظهر الفرية على الله، وعلى كتابه، وعلى دينه، وعلى أهل الأرض" (5).
وقد بين ابن تيمية -رحمه الله - أن ابن عربي قد دفعه القول بوحدة الوجود إلى تفضيل قوم نوح الكفرة على سيدنا نوح- عليه
السلام-: "ولهذا عاب ابن عربي نوحا أول رسول بعث إلى أهل الأرض، وهو الذي جعل ذريته هم الباقين، وأنجاه ومن معه في السفينة، وأهلك سائر أهل الأرض لما كذبوه، فلبث في قومه ألف سنة إلا خمسين عاما. وعظم قومه الكفار الذين عبدوا الأصنام، وأنهم ما عبدوا إلا الله، وأن خطاياهم خطت بهم فغرقوا في بحار العلم بالله. وهذا عادته ينتقص الأنبياء ويمدح الكفار، كما ذكر مثل ذلك في قصة نوح وإبراهيم وموسى وهارون وغيرهم" (1).
وأفضى به ذلك الأمر إلى "مدح عباد العجل، وتنقص هارون، وافترى على موسى، فقال: وكان موسى أعلم بالأمر من هارون، لأنه علم ما عبده أصحاب العجل، لعلمه بأن الله قد قضى أن لا يعبد إلا إياه، وما قضى الله بشيء إلاوقع فكان عتب موسى أخاه هارون لما وقع الأمر في إنكاره وعدم اتساعه، فإن العارف من يرى الحق في كل شيء، بل يراه عين كل شيء" (2).
وجدير بالذكر أن أصحاب التصوف الفلسفي لم يخلفوا تفسيرا متكاملا للقرآن الكريم، بل كل ما لهم نصوص مبثوثة في التفسير المنسوب لابن عربي (560هـ/638هـ) وكتابيه: الفتوحات المكية، وفصوص الحكم (3).
2 - التفسير الصوفي الإشاري
التفسير الصوفي الإشاري له تعريفات متعددة (1) لعل أشملها وأدقها ما عرفه به الشيخ الصابوني حيث قال: "التفسير الإشاري هو تأويل القرآن على خلاف ظاهره، لإشارات خفية تظهر لبعض أولي العلم، أو تظهر للعارفين بالله من أرباب السلوك والمجاهدة للنفس، ممن نور الله بصائرهم فأدركوا أسرار القرآن العظيم، أو انقدحت في أذهانهم بعض المعاني الدقيقة، بواسطة الإلهام الإلهي أو الفتح الرباني، مع إمكان الجمع بينهما وبين الظاهر المراد من الآيات الكريمة" (2).
ومن هذا التعريف وغيره من التعريفات، يتبين لنا أن المنهج الإشاري في التفسير يختلف عن المنهج الرمزي حيث يمكن في الأول الجمع بين ظاهر النص وبين الباطن الذي ينصون عليه، أما في المنهج الثاني فإن المفسر يلغي دلالات النص اللغوية، بحيث يصبح التفسير عبارة عن تموجات فوق النص، ومعاني متوهمة لا يربطها بالنص المفسر أدنى رابط، لا شرعي، ولا لغوي، ولا منطقي.
وقد تتبع ابن تيمية المنهج الإشاري في التفسير، فأوضح أن مفهوم الإشارة عند المتصوفة هو كالتالي:"والثاني ما كان في نفسه حقا، لكن يستدلون عليه من القرآن والحديث بألفاظ لم يرد بها ذلك، فهذا الذي يسمونه "إشارات" و"حقائق التفسير " لأبي عبد الرحمن فيه من هذا الباب شيء كثير" (1).
ثم بين أن الإشارات بهذا المفهوم تنقسم إلى قسمين:
" أحدهما: أن يقال: إن ذلك المعنى مراد باللفظ. فهذا افتراء على الله، فمن قال: المراد بقوله: {تذبحوا بقرة} (2) هي النفس، وبقوله {اذهب إلى فرعون} (3) هو القلب، {والذين معه} (4) أبو بكر {أشداء على الكفار} (4) عمر {رحماء بينهم} (4) عثمان {تراهم ركعا سجدا} (4)، علي، فقد كذب على الله إما متعمدا وإما مخطئا " (5).
وأما القسم الثاني فهو الذي لا تحمل فيه المعاني على أنها مراد الله تعالى. فيكون ذلك من باب الإعتبار والقياس، وهو شبيه بالقياس الأصولي. فكما ينقسم القياس إلى صحيح وباطل، فإن الإشارة هي
الآخرى تخضع لنفس التقسيم: "فالذي تسميه الفقهاء قياسا هو الذي تسميه الصوفية إشارة، وهذا ينقسم إلى صحيح وباطل، كانقسام القياس إلى ذلك. فمن سمع قول الله تعالى: {لا يمسه إلا المطهرون} (1) وقال: إنه اللوح المحفوظ أو المصحف، فقال: كما أن اللوح المحفوظ الذي كتب فيه حروف القرآن لا يمسه إلى بدن طاهر، فمعاني القرآن لا يذوقها إلى القلوب الطاهرة، وهي قلوب المتقين، كان هذا معنى صحيحا واعتبارا صحيحا، ولهذا يروي هذا عن طائفة من السلف ... وكذلك من قال: (لا تدخل الملائكة بيتا فيه كلب ولا جنب) (2) فاعتبر بذلك أن القلب لا يدخله حقائق الإيمان إذا كان فيه ما ينجسه من الكبر، والحسد، فقد أصاب. قال تعالى: {أولئك الذين لم يرد الله أن يطهر قلوبهم} (3) {سأصرف عن آياتي الذين يتكبرون في الأرض بغير الحق، وإن يروا كل آية لا يؤمنوا بها، وإن يروا سبيل الرشد لا يتخذوه سبيلا، وإن يروا سبيل الغنى يتخذوه سبيلا} (4)، وأمثال ذلك " (5).
وتشبيه ابن تيمية -رحمه الله- إشارات الصوفية بالقياس الأصولي يبين أن التفسير الصوفي الإشاري منه ما يدخل تحت إطار التأويل المنقاذ- أي المحمود- وهو الذي يوافق نصا أو لا يعارضه،
ومنه ما يدخل تحت إطار التأويل المستكره -باصطلاح الراغب الاصفهاني- أو التفسير على المذهب -باصطلاح ابن تيمية - وهو التأويل المذموم الذي لا أصل له في الدين، بحيث لا يستند إلى النص، بل قد يتعارض مع كثير من النصوص المحكمة
ومن ثم اعتنى علماء أهل السنة بوضع الشروط التي إذ توفرت في التفسير الصوفي الإشاري أخرجته من دائرة التفسير على المذهب. وقد جمعها أبو عبد الله شمس الدين بن قيم الجوزية (751هـ) -رحمه الله - في أربعة شروط وهي:
1 - أن لا يناقض معنى آية.
2 - أن يكون معنى صحيحا في نفسه.
3 - أن يكون في اللفظ إشعار به
4 - أن يكون بينه وبين معنى الآية ارتباط وتلازم (1).