الثالث: أن هذا النسق العجيب، والتركيب البديع مقتضٍ ترتب ما بعد الفاء على ما قبلها ترتب المسبب على سببه، والمعلول على علته؛ ألا ترى أن الفسق علة» حق القول عليهم «، و» حق القول عليهم «علة لتدميرهم؛ فهكذا الأمر سبب لفسقهم ومقتض له، وذلك هو أمر التكوين، لا التشريع.
الرابع: أن إرادته سبحانه لإهلاكهم إنما كانت بعد معصيتهم، ومخالفتهم لرسله؛ فمعصيتهم ومخالفتهم قد تقدمت، فأراد الله هلاكهم، فعاقبهم بأن قدر عليهم الأعمال التي يتحتم معها هلاكهم .... ) ([2])
الدراسة:
تضمن كلام ابن القيم السابق قولين في المراد بقول الله U : ? وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا ?، وهما:
القول الأول: أمرنا المترفين أمراً كونياً قدرياً بالفسق، أي: قضينا ذلك، وقدرناه عليهم.
القول الثاني: أمرنا مترفيهم بالطاعة، فعصونا وفسقوا، فحق عليهم القول، فدمرناهم تدميراً.
وقد رجح القول الأول من عدة وجوه – كما سبق -.
والأقوال المشهورة في المراد بـ» أَمَرنا «هنا ثلاثة أقوال ([3]):
القول الأول منها: أنه من الأمر، وفي الكلام إضمار، تقديره: أمرنا مترفيها بالطاعة، ففسقوا. وهذا القول مروي عن ابن عباس ([4])، وسعيد بن جبير ([5]). قال الزجاج: (ومثله في الكلام: أمرتك فعصيتني؛ فقد علم أن المعصية مخالفة الأمر.) ([6])
القول الثاني: كثَّرنا يقال: أمرت الشيء وآمرته، أي: كثَّرته. وهو قول أبي عبيدة ([7])، وابن قتيبة ([8]). ويؤيد هذا القول قراءة: ? آمَرنا ? ([9]). وبهذا المعنى رويت الأقوال في تفسير الآية عن ابن عباس، وعكرمة، والحسن، وقتادة، وابن زيد. ([10])
القول الثالث: أنَّ معنى أَمرنا: أمّرنا، يقال: أَمَرْت الرجل، بمعنى: أمّرته. والمعنى: سلّطنا مترفيها بالإمارة. ويؤيد هذا القول قراءة:» أَمَّرنا «([11])، وعلى هذه القراءة جاء تفسير ابن عباس، حيث قال:» أَمَّرْنَا مُتْرَفِيهَا «سلطنا أشرارها فعصوا فيها، فإذا فعلوا ذلك أهلكتهم بالعذاب، وهو قوله: ? وكذلكَ جَعَلنا فِي كُلّ قَرْيَةٍ أكابِرَ مُجْرِمِيها لِيَمْكُرُوا فِيها ? (الأنعام:123). ([12])
ومثله قول مجاهد: بعثنا ([13])، وقول الربيع بن أنس: سلّطنا. ([14])
وأما موقف أئمة التفسير من هذه الأقول؛ فيتضح من خلال هذا العرض:
بدأ ابن جرير في تفسيره لهذه الآية بذكر القراءات التي قرئ بها قول الله U : ? أَمَرْنَا ?، ثم ذكر معنى الآية على كل قراءة. وقد ذكر الأقوال الثلاثة السابقة، ووجه كل قول منها، وذكر من قال بكل قول من أهل التأويل، وأهل اللغة.
وقد ختم ذلك ببيان موقفه من تلك القراءات، وتلك الأقوال، فرجح قراءة جمهور القراء المشهورة، وبيّن أنها أولى القراءات بالصواب، ورجّح القول الأول من الأقوال الثلاثة السابقة في معنى الآية قائلاً: (وإذا كان ذلك هو الأولى بالصواب بالقراءة، فأولى التأويلات به تأويل من تأوّله: أمرنا أهلها بالطاعة فعصوا وفسقوا فيها، فحقّ عليهم القول؛ لأن الأغلب من معنى» أمرنا «: الأمر الذي هو خلاف النهي دون غيره، وتوجيه معاني كلام الله جلّ ثناؤه إلى الأشهر الأعرف من معانيه، أولى ما وجد إليه سبيل من غيره.) ([15])
وكذلك ابن عطية، والقرطبي؛ ذكرا الأقوال الثلاثة السابقة، ونقلا القراءات التي قرئ بها هنا، وذكرا التوجيه المناسب لكل قراءة، ومعنى الآية على كل قول، إلا أنهما لم يذكرا ترجيحاً أو اختياراً، واكتفيا بعرض تلك الأقوال كاحتمالات لا مانع من قبولها كلها. ([16])
وذكر الرازي قولين في معنى: ? أَمَرْنَا ?:
الأول: أنه المراد به الأمر بالفعل. ثم في المأمور به قولان: أشهرهما أنه أمرٌ بالطاعة - كما في القول الأول من الأقوال الثلاثة السابقة -. والقول الثاني: أن المأمور به الفسق – كما هو قول الزمخشري ([17]) -. وقد بيّن الرازي بطلان هذا القول، واستغرب اختيار الزمخشري له، ثم قال: (فثبت أن الحق ما ذكره الكل، وهو أن المعنى: أمرناهم بالأعمال الصالحة - وهي الإيمان والطاعة -، والقوم خالفوا ذلك الأمر عناداً، وأقدموا على الفسق.)
¥