تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

ترجيح الإمام ابن القيم:

رجح الإمام ابن القيم القول: بأن المراد بالأمر في قوله تعالى: " أمرنا مترفيها " أمر قدري كوني، وليس أمرا دينيا شرعيا، وأن معنى "أمرنا": قضينا فقدَّرنا (2).

ولم أجد في بحثي أن أحدا بعينه قد سبق ابن القيم في ترجيح ذلك القول.

وقد ذكر (ابن كثير) ذلك القول ولم ينسبه لأحد فقال:

" فقيل:معناها: أمرنا مترفيها ففسقوا فيها أمرا قدريا " (3).

كما ذكره ابن تيمية كأحد الأقوال في الآية ولم يرجحه ولم ينسبه لأحد (4).

ولم يوافق ابنَ القيم ـ فيما بحثت ممن جاء بعده ـ إلا ابن أبي العز الحنفي كما نقلنا عنه ذلك في القول السادس (5).

وقد خالف ابن القيم بقوله ذلك جمهور المفسرين الذين قالوا: بأن في الكلام إضمارا تقديره (أمرنا مترفيها بالطاعة ففسقوا) أو ما في معنى الطاعة مثل:التكليف، أو الأوامر، وغير ذلك.

أدلة ترجيح ابن القيم: (6)

ذكر ابن القيم ـ لترجيحه هذا، ورفضه كون الأمر دينياً بمعنى: أمرناهم بالطاعة ـ سبعة وجوه سأذكرها كلها جمعاء كما أوردها:-

ـ الأول: أن الإضمار على خلاف الأصل،فلا يصار إليه؛ إلا إذا لم يمكن تصحيح الكلام بدونه.

ـ الثاني: أن ذلك يستلزم إضمارين: أحدهما: أمرناهم بطاعتنا، ثانيهما: فخالفونا، أو عصونا، ونحو ذلك

ـ الثالث: أن ما بعد الفاء في مثل ذلك التركيب هو المأمور به نفسه كقولك: أمرتُه ففعل،وأمرُته فقام، وأمرته فركب، لا يفهم المخاطب غير هذا.

ــــــــــــــــــ

(1) انظر مجموع فتاوي شيخ الإسلام. أحمد بن تيمية: 2/ 411، جمع وترتيب: عبد الرحمن الحنبلي،مؤسسة الرسالة، بيروت، لبنان، 1418هـ- 1997م. (بدون رقم الطبعة).

(2) انظر: شفاء العليل: 2/ 769

(3) تفسير القرآن العظيم: 3/ 32.

(4) مجموع الفتاوى: 2/ 411.

(5) راجع ص64 من هذا البحث.

(6) انظر: شفاء العليل: 770 - 771.


= ـ الرابع: أنه سبحانه جعل سبب هلاك القرية أمره المذكور، ومن المعلوم أن أمره بالطاعة، والتوحيد لا يصلح أن يكون سبباً للهلاك، بل هو سبب النجاة والفوز، فإن قيل: أمره بالطاعة مع الفسق هو سبب الهلاك،
قيل: هذا يبطل بالوجه الخامس: وهو أن هذا الأمر لا يختص بالمترفين، بل هو سبحانه يأمر بطاعته وإتباع رسله المترفين وغيرهم، فلا يصح تخصيص الأمر بالطاعة بالمترفين حيث وضحه الوجه السادس: أن الأمر لو كان بالطاعة، لكان هو نفس إرساله رسله إليهم، ومعلوم أنه لا يحسن أن يقال: أرسلنا رسلنا إلى مترفيها، ففسقوا فيها، فإن الإرسال لو كان إلى المترفين لقال مَنْ عداهم: نحن لم يرسل إلينا.
ـ السابع: أن إرادة الله سبحانه لإهلاك القرية إنما تكون بعد إرسال الرسل إليهم، فتكذيبهم، وإلا فقبل ذلك هو لا يريد إهلاكهم؛ لأنهم معذورون بغفلتهم وعدم بلوغ الرسالة إليهم، قال تعالى:
"ذَلِكَ أَن لَّمْ يَكُن رَّبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا غَافِلُونَ" (الأنعام / 131).
فإذا أرسل الرسل إليهم فكذبوهم، أراد إهلاكها، فأمر رؤساءها ومترفيها أمرا كونيا قدريا، لا شرعيا دينيا، بالفسق في القرية، فاجتمع على أهلها تكذيبهم وفسق رؤسائهم؛ فحينئذٍ جاءها أمر الله، فحق عليها قوله بالإهلاك.
هذه هي الوجوه التي ذكرها ابن القيم كأدلة على قوله وترجيحه، وردا على القول: بأن في الآية إضمارا تقديره: (أمرنا مترفيها بالطاعة ففسقوا) وهو قول جمهور المفسرين كما رأيت، أوردت تلك الوجوه كما هي لم أزد عليها ولم أنقص منها شيئاً.

اختيار الباحث.
بعد الاطلاع على أقوال المفسرين المختلفة، وكذلك أقوال العلماء حول معنى الأمر الإلهي في الآية الكريمة؛ فإنني أرجح قولين من الأقوال المذكورة:
القول الأول:
الذي قدر مضمرا، هو: (أمرنا مترفيها بالطاعة، ففسقوا فيها)، وأرجح هذا القول على غيره من الأقوال؛ بناء على قراءة "أَمَرنا " بالقصر والتخفيف، وهي قراءة جمهور القراء (1).
ــــــــــــــــ
(1) انظر: التفسير الكبير: 20/ 177.

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير